شاركت مطلع هذا العام في احتفال في مكتبة الكونغرس الأميركي بمناسبة مرور مائة عام على صدور «كتاب خالد» للكاتب اللبناني أمين الريحاني، وكان مبرر الاحتفال ليس صدور ذلك العمل الروائي بحد ذاته فهو ليس أهم عمل روائي يكتبه عربي لبناني، وإنما كونه أول عمل من نوعه لكاتب عربي يصدر بالإنكليزية، أي أن أهمية العمل ليست في كونه رواية أو ما يشبه الرواية، وإنما في كونه عملاً يؤسس لما عرف في ما بعد بالأدب العربي الأميركي، الأدب بمعناه الشامل، الرواية والشعر والنثر والمسرح وما إليها. صدر «كتاب خالد» عام 1911 وهو يروي قصة شابين أحدهما اسمه خالد يذهبان إلى الولاياتالمتحدة طلباً للرزق ويتعرفان خلال ذلك على وجوه مختلفة من وجوه الحياة الأميركية، ومن ذلك حياة المجتمع العربي الصغير الذي تشكل نتيجة لهجرات متتالية من العرب إلى أميركا وبالذات في مدينة نيويورك، وهؤلاء العرب كانوا في المقام الأول من السوريين أو الشوام، أي السوريين واللبنانيين والفلسطينيين مجتمعين تحت مسمى «سوريين». وفي الرواية أن خالد يعود أدراجه إلى العالم العربي بعد أن فقد الأمل في تحقيق حلمه في أميركا بتحقيق العالم المثالي الذي يجمع مختلف الثقافات، الأديان بشكل خاص، تحت سقف واحد وينقذ الإنسانية من شرور الحروب والدمار. يعود خالد، الذي نرى فيه صورة للريحاني نفسه الذي عاد كما عاد خالد، ليبدأ مشروعاً إصلاحياً في وطنه العربي لعل ذلك يكون الخطوة العملية الأولى لتحقيق الحلم البعيد. لا أظن أمين الريحاني بحاجة إلى تعريف وإن كانت شهرته بوصفه أديباً مؤسساً لا توازي شهرته من حيث أنه مؤرخ أو كاتب معني بالفكر والإصلاح الاجتماعي، ناهيك عن أن توازي شهرة أحد مجايليه من المهجرين العرب وهو صديقه جبران خليل جبران. أما «كتاب خالد» فيكاد يكون مجهولاً لدى كثير من القراء العرب، ومنهم المختصون من نقاد الأدب ومؤرخيه، حتى بعد أن ترجم إلى العربية (بيروت 1986). كان ضرورياً أن يقام مؤتمر في أميركا وأن تقام احتفالات للتعريف بذلك العمل الهام، بل للتعريف بدور الريحاني نفسه بوصفه رائداً من كبار رواد الثقافة العربية وصانعي نهضتها في العصر الحديث. كما أنه كان من الضروري أن يضطلع بتلك المهمة الرائعة أكاديمي أميركي شاب انطلاقاً من معرفته بالأدب العربي الحديث وتخصصه في أدب الريحاني وحماسته العجيبة له. ذلك هو الأستاذ (تود فاين) الذي يدرس في إحدى الجامعات الأميركية، بعد أن تلقى دعماً من المؤسسة التي أسسها أبناء الريحاني وأقرباؤه ومؤسسات أميركية ثقافية منها مكتبة الكونغرس. لقد كان الريحاني رائداً بحق حين أسس لأدب سيتيح لكثير من الأجيال التي تنحدر ولو جزئياً من الوطن العربي أن تبني تراثاً باللغة الإنكليزية يموج بالأعمال المتنوعة والغنية في مجملها برؤى وأفكار ومشاعر وجماليات يمكن أن تعد جزءاً من الأدبين العربي والأميركي في الوقت نفسه. ومثل الريحاني فعل مثقفون عرب ذهبوا إلى أميركا الجنوبية وأوروبا وآسيا وغيرها ليؤسسوا لأدب مزدهر بعضه باللغة العربية وبعضه بلغات المناطق التي عاشوا فيها، وهو أدب محسوب على الثقافة العربية بناءً على هوية منتجيه وانعكاس تلك الهوية وما تنطوي عليه من ثقافة في ذلك الأدب. فمع أن هوية ذلك الأدب تمثل إشكالية لمؤرخي الآداب العالمية - فما نحن بصدده ليس أقل من ظاهرة عالمية كبرى وغير مقتصرة على الوطن العربي - فإن من الآراء القوية والمدعومة بالشواهد أن علاقة تلك الآداب الفرعية بأصولها واضحة لا لبس فيها. فمن الذي سينكر أن ثمة انتماء عربياً لنتاج أمين معلوف أو الطاهر بن جلون أو أهداف سويف أو إلماز أبي نادر؟ أقول «انتماء» ولا أقول «الهوية» لأن للغة ومحمولاتها وللانتماء المكاني والاجتماعي ثقلها على الإبداع. فالرواية أو القصيدة تأتي معبرة عن رؤية ثقافية هي رؤية كاتبها، ولكن أدوات الإنشاء أو البناء، وأولها اللغة، إلى جانب السياقات الاجتماعية والجغرافية والسياسية والاقتصادية، لكل هذه تأثيرها العميق على رؤية الكاتب مهما تفردت أو سعت إلى الاستقلال. الناقد الهندي الأميركي هومي بابا اقترح مصطلح «الهجنة» لوصف مثل ذلك الأدب وهو بالفعل قادر على توصيل تلك الهوية الفريدة التي يمثلها الأدب الذي ينتجه أفراد ينتمون إلى ثقافة ما بلغة ثقافة أخرى. الهجنة صفة مناسبة ليس لوصف الأدب المكتوب بلغة غير لغة صاحبها الأصلية فحسب، وإنما هو مناسب أيضاً لوصف الأدب المكتوب بتلك اللغة الأصلية نفسها إذا جاء معبراً عن تجربة حياتية في سياق مغاير للسياق الذي ينتمي إليه الكاتب. كما أن الهجنة صفة تصدق حتى على كثير من النتاج المحلي لكثير من اللغات نتيجة الانتقال وامتزاج الأفكار وسهولة الاتصال. ولكن الهجنة تظل مع ذلك صفة مناسبة بشكل خاص لأدب ينتج خارج حدوده الأصلية، كالأدب العربي حين ينتج في أميركا أو هولندا أو البرازيل أو الصين إذا حمل رؤية منبعثة من شكل واضح من أشكال التفاعل مع مجتمعات أو ثقافات تلك البلاد. هذا مع أن الهجنة وإن اتضحت صفة نسبية في نهاية الأمر، تتراوح ارتفاعاً وهبوطاً بحسب نوع التجربة وخصوصيات الكاتب وموقعه إلى غير ذلك من مؤشرات. فثمة أعمال تنتج خارج حدود المكان الأصلي ولكن لا شأن لها بالمكان الذي كتبت فيه، وأعمال تنتج خارج المكان وتكون أكثر اتصالاً به من أعمال تنتج داخله. وينطبق ذلك على الأدب المهجري لمعظم المنتمين للجيل الأول من الكتاب العرب، فما صلة شعر إيليا أبي ماضي مثلاً بالولاياتالمتحدة، إذ أنتج ذلك الشعر؟ وقس على أبي ماضي العديد من النتاجات الأدبية الأخرى. ومثلما يتفاوت الكتاب تتفاوت أعمالهم في درجة انتمائها، وهكذا. وبالمقياس نفسه يمكن القول إن نتاج بعض المهجريين أكثر صلة بالثقافة العربية التقليدية منه بنتاج بعض من أقاموا في البلاد العربية وظل نتاجهم متأثراً بقوة بما تعرضوا له من مؤثرات خارجية. لست هنا بصدد التنظير لهذا القسم الكبير من الأدب، فما يعنيني هو التمهيد لبعض الملاحظات حول عدد من الأعمال الأدبية التي تقع ضمن ذلك القسم التي أنتجها عرب يقيمون خارج حدود الوطن العربي مكاناً ولغة أو مكاناً فقط. وقد رأيت بين بعض تلك الأعمال نواظم يمكن استجلاؤها بالتحليل المقارن وعلى النحو الذي يمكن أن يثري رؤيتنا للتجربة الكتابية عبر حدود اللغة والمكان إلى جانب أن التأمل في تلك الأعمال يمكننا من الإطلال على تجارب حياتية لأقليات عربية أو ذات أصول عربية وأساليب تفاعلها مع مجتمعات مختلفة وما تواجهه من تحديات، من ناحية، ومع محيطها العربي البعيد من ناحية أخرى. عشت مع بعض تلك الأعمال بحكم الاهتمام الشخصي وبحكم التدريس الجامعي حين وجدت اهتماماً قوياً بها وبما يشابهها لدى بعض أبناء وبنات الجيل الجديد من طلبة الدراسات العليا في أقسام اللغات الأجنبية سواء في جامعة الملك سعود أو غيرها من جامعاتنا ممن أتيح لي العمل معهم تدريساً أو إشرافاً على رسائل أو مناقشاً لتلك الرسائل فاغتنيت برؤيتهم وتبينت لي جوانب لم أكن لأصل إليها منفرداً. وكان بعض أولئك قد أنجز رسائل مهمة حول تلك الأعمال في حين أنجز معظمهم أوراقاً بحثية تضيء جوانب مختلفة من ذلك الأدب المهجري الحديث. ولاشك أن دواعي التخصص والاهتمام الشخصي بالدراسات المقارنة أو بما يفضل بعض المقارنين أن يسميه «العلاقات الأدبية الدولية» أو «العلاقات الثقافية الدولية» كان حافزاً للتوسع قليلاً في تتبع مسارات الرؤية والإنجاز في ما أشير إليه من أعمال استجلاء لسماتها واستمتاعاً بتكوينها الجمالي وما تطرحه وهي تضم بالفعل بعض إنجازات كبيرة تستحق أن تعرف على نطاق أوسع في الوطن العربي وأن يترجم ما لم يترجم منها. الكتاب الذين أشير إليهم ينحدرون من مناطق عربية مختلفة، بعضهم هاجر إلى خارج تلك المناطق وأقام فيها إقامة دائمة وبعضهم أقام مؤقتاً خارجها، ومن أولئك الخليجيون والعراقيون واللبنانيون والسودانيون والمغربيون إلى نهاية القائمة التي لست بصدد حصرها. لم أطلع على كل ذلك النتاج، لكني تعرفت مؤخراً على بعض نماذجه الروائية، وكنت منذ سنوات أتابع نماذجه الشعرية كما يتضح من كتابي الأخير «لغات الشعر» (2011) وقبله «أبواب القصيدة» (2004). ولاشك أن مما سيثري الرؤية وضع تلك الأعمال في سياق المقارنة مع أعمال لكتاب آخرين وجدوا أنفسهم في وضع مشابه، أي في وضع من الهجرة والإنتاج خارج حدود مواطنهم الأصلية، كالكتاب الهنود في إنكلترا وأميركا والصينيين في فرنسا، بل وما أنتجه كتاب أوروبيون وأمريكيون في بلدان غير بلدانهم، مثل الأمريكيين إرنست هيمنغوي وهنري ميلر في فرنسا وكوبا والأيرلنديين صموئيل بيكيت وجيمس جويس في فرنسا، الخ. لكني لن أعد بالقيام بتلك المقارنات الكثيرة على أهميتها، وإنما سأحصر اهتمامي بالنصوص نفسها وما تثيره من أسئلة حول بنيتها وما يربطها من صلات، وكذلك ما يصلها بمحيطها العربي من ناحية ومحيطها الأجنبي من ناحية أخرى. ذلك ما ستحمله مقالات قادمة أرجو أن تعرف على الأقل بأهمية بعض ما تتناوله. * ناقد سعودي.