مقالة الاسبوع الماضي، حديث يضيء جوانب غير مقروءة أو يحاول الإجابة عن اسئلة لم تستوف حقها من البحث بما يتجاوز ما كتبه القصيمي نفسه أو من كُتب عنه. لم يخل ذلك الحديث - كما توقعت - من تعليقات عدد من القراء الذين استهجنوا الحديث عن عبدالله القصيمي؛ إلا أن ما يدفعني أيضاً لاشراك القارئ هو شغف فريق آخر من القراء.. وهي نسبة مبشرة توحي بتحول ذهني في عقلية القراءة. عندما يتجرد القارئ من خلفية ذهنية مسبقة تسيطر عليه تجاه الحكم عن التاريخ أو الاحداث أو الشخصيات، فبامكانه ان يقرأ صفحات التاريخ والفكر وأبعاد التأثيرات بوعي الباحث عما خلف الظاهرة، أما محاكمة الظاهرة نفسها وفق منظوره أو قيمه أو مرجعيته فتلك مسألة اخرى. هناك فارق كبير بين الترويج لفكر، وبين استعادة قراءة جوانب اخرى تضيء تلك المساحة بين الفكر ومنتج الفكر نفسه، وهذا ما أحاوله. تاريخ عبدالله القصيمي زاخر بالكثير مما يمكن ان يروى، لقد حاولت استنطاق من عرفت ممن بقي من اصدقائه من السعوديين أيضاً في مسائل اخرى غير ما نشر ويعرفه القراء، سواء ممن عرفه في بيروت أو القاهرة، وأنا هنا اتحدث عن اصدقاء اقتربوا منه بما يكفي لاكتشاف مساحة اخرى تطال تلك الشخصية الجدلية، ولا اتحدث عن عابرين ألقوا التحية عليه يوماً ما. ولا اتحدث عن انطباعات غير دقيقة وربما تأتي ملطفة وملتبسة وتحاذر ان تصدم قارئا على هذا الاساس فسأواصل تلك المهمة الشاقة. العقد الذي بيني وبين القارئ ان يشاركني في محاولة الاكتشاف، وان تتواضع أحكام الخلفية المسبقة الرافضة لاستعادة قراءة اخرى تطال جوانب لم تُقرأ بعد. لن يخسر القارئ كثيراً إذا ما اكتشف جوانب اخرى، انما يخسر كثيراً في نظري عندما يأخذه الشغف لمزيد من القراءة ومع ذلك يصر على معاقبة الكاتب بذهنية القراءة بالإدانة. أعاود اليوم استكمال ما يمكن استكماله في شهادة رفيق وصديق للقصيمي التصق به قرابة الخمسة عقود في القاهرة وهو الأستاذ إبراهيم عبدالرحمن. كان مما يشغلني في آراء القصيمي ما كان يدور حوله من قضايا كبرى، وفي اعتقادي ان الاقتراب من تلك الآراء يضيء جانبا غير مقروء في نزعة الرجل التحليلية للاحداث. سألت الأستاذ: عاش القصيمي احداث نكبة فلسطين، ونحن اليوم نشهد الذكرى الستين لها، كيف كان يرى القصيمي موضوع الصراع العربي الإسرائيلي في تلك المرحلة التي عايشها؟ قال: لم يكن القصيمي يرى ان المسألة تحل بالحروب والمواجهة العسكرية آنذاك، كان يرى ان القضية في المنطقة أكبر من إسرائيل. كان يقول ان القضية حضارية بالدرجة الاولى، وان الشعوب والدول العربية لو ارتقت حضارياً لمستوى إسرائيل علمياً وتنظيمياً وإدارياً لن يكون هناك قضية اسمها إسرائيل، ستصغر إسرائيل وتتضاءل، حتى تصبح لا قيمة لها وسط هذا الزخم الحضاري الكبير، وإذا حصل أي نوع من المواجهة فلن يكون في مقدور إسرائيل البقاء. التخلف العربي هو الذي مكّن إسرائيل من الوجود والتأثير الكبير في مستقبل المنطقة، وأن تتحول القضية في تلك المرحلة إلى مواجهة إسرائيل عن مواجهة الذات المتخلفة، هو الخطأ الكبير، وأن الطريق الصحيح كان يحتم تحرير الذات من اسر التخلف والاستبداد وعندها ستنتهي إسرائيل ولن تصبح قضية القضايا. جاءت تلك الاجابة تحمل لبساً كبيراً، لقد أيقنت ان الاستبداد هو الطاعون الأكبر في هذه المنطقة العربية المنكوبة، وايقنت ان الصراع حضاري في البدء يتطلب الانعتاق من ربقة التخلف بكل اشكاله ومعاودة بناء الذات وفق منظومة من القيم الإنسانية والأخلاقية والحقوقية وكنت مؤمناً ان كل هذا هو الاطار الأكبر لانقاذ الذات العربية من وطأة التخلف القاتل أولاً وهو استعداد لا غنى عنه لمواجهة حتمية مع هذا الكيان، ولذا لم أتحرج من استعادة السؤال: ماذا يعني انها لن تصبح قضية القضايا.. هل كان يقصد أنها ستزول من خريطة الوجود أو تذوب في كيان أكبر أو لم يكن يعني هذا ولا ذاك. لقد وجدت الأستاذ قلقاً من استعادة تلك الأسئلة، وادركت انه يخشى من وطأة الصدمة لو استعاد رأي القصيمي بشكل أكثر وضوحاً في هذه المسألة تحديداً. لقد كان الأستاذ إبراهيم مؤمنا برأي القصيمي في هذه المسألة، إلا انه خشي ان يجرح بعض إيماني بتلك القضية. قلت له بأمانة الراوي، وبلا تحفظ لا ضرورة له اليوم. كيف كان يرى القصيمي المسألة اليهودية؟.. قال سأكشف لك شيئاً، ولأول مرة أقوله، لقد كان القصيمي متعاطفاً مع اليهود، الذين عانوا عبر كل العصور - على حد تعبيره - او كان يقول في البدء (اولاد عمومتنا من يقوى على استقبالهم غيرنا، واننا يمكن ان نستقبل نبوغاً عالمياً يمكن الإفادة منه). تطلع الأستاذ في وجهي وهو يدرك ابعاد الصدمة التي يمكن ان يخلفها مثل هذا الرأي، الذي لم يعد غريباً اليوم، لكنه رأي القصيمي على ابواب النكبة. قلت للأستاذ.، لن اعطي هذا الرأي أكثر مما يستحق، كما ان قراءة الآراء تخضع لظروف المشهد الذي قيلت فيه، أشك ان القصيمي اكتشف ابعاد المسألة اليهودية لدرجة ان تكون رؤيته مبنية على أسس قابلة للمحاكمة، الفكر السياسي هو الحيز الضيق الذي لما يقاربه القصيمي كما ينبغي.. أليس كذلك؟.. لقد مارس اليهود ذوو النبوغ العالمي اقسى أنواع التشريد والتهجير والقتل والنفي والطرد للفلسطينيين وسواهم ممن قاوموا مخطط هذا الكيان. لا أقوى على تحرير عقلي من مؤامرة استهدفت هذه المنطقة واستهدفت تعطيلها حضارياً، غرس هذا الكيان تعطيل حضاري، ومقاومته تتطلب استعادة حضارية للإنسان.. أليست تلك هي المعادلة الشاقة التي علينا فهمها؟.. لم يحر الأستاذ جواباً.. كان يبتسم وهو يتابع آثار الصدمة!! ولأن المسألة اللبنانية حاضرة في المشهد السياسي اليوم، سألته: عاش القصيمي في لبنان بضع سنوات، ذهب اليها بعد اخراجه من مصر في منتصف الخمسينات تقريباً، وعاد إليها في الستينيات حتى أخرج منها.. وبين الاخراجين - من مصر اولا ومن لبنان ثانياً - قصة اخرى يمكن روايتها في وقت آخر. لقد أخذ القصيمي في اقامته الاولى ببيروت، كانت مفاجأته الكبرى سحرته فيها اجواء الحرية والتعددية والجمال وحيوية هذا البلد الصغير.. وقد نشط فيها كاتباً في صحف يومية يقترب من ملامح الكاتب السياسي، وهو الذي لم يعط هذا الجانب اهتماما سابقا.. كيف تحول القصيمي إلى كاتب سياسي في بيروت؟.. اجابني، إن القصيمي كان يرى لبنان منذ مرحلة الخمسينات استثناء عربياً، لبنان في ذاكرة القصيمي زهرة اغتيلت حتى تتساوى أقطار الخنق والرماد العربي. استأذن الأستاذ وعاد بكتيب صغير قديم بلا غلاف، (كنت يالبنان زهرة).. أرجوزة عشق من القصيمي في لبنان الذي كان يمكن القول انها مناجاة عاشق للبنان الذي كان، وهجاء للعرب الذين اغتالوا تلك الزهرة!! وفي الحقيقة لم اتذوق تلك المنظومة لا من الناحية الفنية ولا من ناحية المعنى الذي يمس الاشكال الأكثر عمقاً في لبنان، سألته: لا أجد في هذا الكلام ما يعطيني ايحاءً بفهم القصيمي لعمق المشكلة اللبنانية، التي تقوم على تركيبة لبنان الطائفية والسياسية والحقل الذي كانت تتصارع فيه كل القوى آنذاك بالكلمة والنفوذ والمؤامرات ومازالت، قال لي انه كان يمجد حرية لبنان، التي تنفس فيها هواء اعاد له توهجه وعقد فيها صداقات قوية وكانت فضاء مفتوحاً حينها على صراع الأفكار وجدل الرؤى وهي ملح القصيمي ولذته الكبرى، إلا أنه لم يكن بعيداً عن فهم تلك التركيبة وتحولاتها، وكان يعي هشاشة تلك الحرية. لقد كان يقول: (حرية لبنان، هي مثل حرية.... تباع وتشترى!!) أما عن تحول القصيمي في لبنان إلى الكتابة في بعض الصحف اليومية، فهو لم يكن كاتباً سياسياً ولم يعد نفسه يوماً كذلك، انما الظروف والتحولات السياسية هي التي فرضت نفسها آنذاك.. وشدته إلى اطار التعبير المتاح في لبنان عما يراه. لم يكن لعبدالله القصيمي اهتمام سياسي قبل رحلته الاولى إلى بيروت بعد اخراجه من مصر، ولم يكن يعمل بالسياسة، انما كان يجادل برأيه السياسي وفق رؤية تقدس الحريات، وشروط العدالة.. في بيروت بدأ يكتب في موضوعات سياسية فرضت نفسها عليه، ولم يكن يروج لأي منظومة أو مفاهيم سياسية، لقد انفتح على الفكر السياسي، لكنه لم يكن يوماً كاتباً سياسياً. الأسبوع القادم سأتناول المفكر الهدمي في عقل الأستاذ، وقصة النهايات الحقيقية.