كان التوقف في اللقاء السابق عند سؤال الشكل، وتم التعرض فيه للشكل الكتابي الذي اتخذته القصيدة الجديدة، واستثمرته وهي تصافح عيون القارئ على بياض الصفحة، عبر الامتداد في الاسطر، والتناظر، والنقاط، وعلامات الترقيم الاخرى، وتساوق ذلك مع التجربة الشعرية، وسنستكمل الآن الحديث في ذلك. من أمثلة الكتابات الشعرية التي تستعين بدلالة فضاء الصفحة، مثل كتابة هذا النص، بعنوان "الحجور" لسعد الحميدين، الذي جاء هكذا: قلت مالي.. ارى في العيون سؤالاً.. يخور.. يخور ويجثو على حافة الهدب.. متكئاً على وجنة ليس فيها سوى العظم بارز.. يمد يداً كبلت بالحطام.. يصبح: أما من مغيث هنا..؟! ذلك النص الذي تختتم الصفحة الثالثة منه بكلمة ووكر الصقور.. ثم تأتي الصفحة الرابعة منه بيضاء يقبع في آخرها، الخواء، الذي عبرت عنه رؤية النص حين سجل في آخر هذه الصفحة البيضاء على هذا النحو من شكل الصفحة: بدا خاليا من صقوره فما عدت أدري ليسجل في آخر هذا الفضاء الذي خلا من السؤال، ومن الصقور، لحظة الخلاء التي جللت الصفحة من أولها، وتركت التعبير في آخرها دلالة على الخواء، وعماء الاجابة، وحين نقف على تشكيل يوسف العارف في نصه والليل"، نجد هاجس التشكيل البصري في النص، فنجد المقطع الأخير من النص يأتي تشكيل كتابته في الصفحة على النحو التالي: ليل تلكأ فجره.. وطوى الأرض السراب وتبضع التاريخ.. من أقماره.. فأسود وجه اليوم.. واختبأ السحاب. واختبأ أ ل س ح أ ب فالجملة الاولى تبقى بعدها نقط للاحتمال، وتتوقف الجملة الثانية بعلامة التوقف، نقطة، عند كلمة السراب وتبقى الجمل التالية مفتوحة، لاوقفة فيها إلا في الجملة الأخيرة (واختبأ السحاب)، لترتد هذه الحملة بعد ذلك مثل طيف، في أول الوسن، يستحضر ما حوله، فتأتي بقع حروف الكلمة، كأنها بقع السحاب التي تتراءى في الطيف، مشابهة، لبقع سحاب لازالت بقاياه، ويبدو ان الكاتب (الشاعر)، راق له هذا الأمر، لأنه ازاء تعبير شعري يستثمر وجوده وفاعليته من الاختلاف، فالسحاب الذي يغطي السماء، يبرز هو مخفيا لزرقتها أصبح هو المختبئ، حين تمزقت قطعة، وتجلت السماء، فاختباؤه في لحظة تجلي ما يخفيه. ومثل هذا الاعتماد على التشكيل البصري في الصفحة للرؤيا، ولحال النطق، والتعبير، ما تجده عند عبدالله باهثيم، - وهو ما سأفصل فيه الحديث في دراسة قادمة - في نص بعنوان "استئجار" يبدؤه هكذا: على وجل: "مثاء الخير" - قلت الآن أذكر.. جطت التِّين - الأنيقة فوق حد الجرح، واستلقت على شفتيك ثانيتين؟ ثانية!.. وكان لسانُك الورديُّ بللها، فمتقلة أطلت.. لا تجفُّ.. ولا تكُفُّ فاستثمر الشاعر هنا علامات الترقيم، النقطتين بعد "على وجل"، ولم تأت بعد "قلت"، لأنه أراد تأخير قلت "لفظاً"، وأراد تقديمها معنى، فهي حاضرة بعد الوجل، لأنه أراد أن يسارع إلى حكاية تلك "الشفة"، في نطقها، وما تستشعره لحظة النطق، وجعل الاشارة بكلمة "قلت"، استدعاء الحكاية وذاكرة ذلك النطق. وتأتي النقاط بعد كلمة "أذكر" فاتحة لأبعاد متعددة، وذكريات مختلفة، منها ما سجله عن حركة "آل ثين"، وجاء بعد ذلك استحضار "ثانيتين؟" بما أشار إليه من علامة الاستفهام، التي تستحضر الحوار معها، وتعداد اللحظة الزمنية، فكأنه لا يضع الخط - إلا ليشير إلى تكرار للحظات بكلمة ثانية المصحوبة بالتعجب، والنقطتين بعدها.