تفقدت ذات مساء ذلك الشجر الذي غاب عنه صاحبه، فأمسيت أقلب تلك الغصون والأوراق أحية هي أم ميتة؟ كأني سمعت منادياً ينادي: أنت.. أيها الفتى.. فوقفت مشدوهاً في مكاني لا أعلم الصوت ومصدره!! أعفريت من الجن يريد الحديث معي!! أم أحد خلف هذه الأشجار يريد رعبي.. فجلت بناظري على عجل فلم أر أحداً.. فقلت: من المنادي..؟! قالت: أنا التي أنادي فلا عجب!! أتعجب من عاشق لم يدر أين ذهب معشوقه، فأضناه الشوق وقلبه ممتلئ بالشك أحي فيرجو لقاءه أم ميت فينوح عليه.. أنا التي أطعمته ومن حر الشمس وقيته.. فما جزاء الإحسان إلا الإحسان فأين الإحسان؟.. فعلمت أنها التي بحواري. ناشدتك الله يا فتى! أين هو؟ أبتاع شجراً ونخيلاً غيرنا..؟ أم أن الملل سكن قلبه فلا يريد أن يأتينا.. ما باله لم يزرنا..؟ ومن عهد قديم غاب عنا..؟ "فذرفت من عينيّ دمعتين أحر من لهب الشمس". - أين ذلك الذي كان يرعانا حتى أصبحنا نحن اللواتي نرعاه..؟ ما حاله وأين مآله؟.. فقد والله اشتقنا لسماع ترديد تلك "الأهازيج" التي حفظها في صغره.. ما ألفهنا لشروق الشمس لعلمنا أنه سيأتينا. فما هي إلا ساعة من نهار ورائحة العطر تسبق قدميه إلينا.. فتتأهب كل واحدة منا للقاء معشوقها.. فيدللنا ويمنينا.. ويطعمنا ويسقينا.. ثم يوزع تلك القبل علينا واحدة تلو الأخرى ويتفقد حالنا، ثم يذهب.. فأطرقت هي قليلاً.. وسمعت أنا آهات شوق تطلقها تلك الشجرة متفطرة: - واشوقاه.. واحر قلباه على حبيب طال بنا الزمن ولم نره. ويح قلبي! أنسي ثماراً أطعمته..؟ أم نسي أني بورقي ظللته وحميته؟ أيها الشاب! إني أتوسم فيك خيراً بأن توصل سلامي إليه وتبلغه بأني في حرقة لرؤيته.. وتقول له: عد يا حبيبي فقد عيل صبري ونفد. عد لتلاعب هذه الغصون وتقطف على هون. فقاطعتها: كفى تحسراً على وقت مضى.. فقد جاء أجله وفني عمره وانقضى.. أما كنتن تأملن أن ترينه..؟ فقد ووري جسده الثرى.. وغابت شمسه وشعاعها سرى.. دمعت العين وتفطر القلب لفراق عم ما درى بما يحمل له قلبي من شوق منعني لذة الكرى.. واطيب روحاه.. ذهب وترك لنا ذكراه.. أقلب صفحات دفتري لأجد: (محمد بن نهار بن فهد العبده" لم يزل حياً وسيزال حياً في دفتر خواطري ما دمت حياً.. فعليك سلامي.. فعرف بعضهن المقصد وأخذ كل منهن ينوح ويتنهد.. وأطرق بعضهن كأن على رؤوسهن الطير.. وبدا شريط الذكريات مر على هؤلاء.. لتقول إحداهن: رحمك الله كما ربيتني صغيراً. أخذت بكمي لأجفف دموعاً غلبتني أبت الإمساك.. وأنا أردد اللهم اغفر له.. اللهم أرحمه.. إن العين لتدمع.. وإن القلب ليحزن.. وإني لفراقك يا عم لمحزون.. لكن لا أقول إلا ما يرضي ربنا. @ استثقلني الحجر الذي كنت قاعداً عليه وأنا أكتب هذه السطور.. فما أن سمع صوت الأذان حتى أخذ يردد الصلاة الصلاة.. "