كثر الحديث وتشعب عن تعثر تنفيذ المشروعات الإنشائية التنموية الحكومية وأريقت كميات وافرة من الحبر في هذا الموضوع وحوله، فهناك من يرى أن الأسباب محصورة بالمقاولين ويدعو إلى فتح الباب بل البوابات للمقاولين من الخارج وفي هذا الحل السحري للمشكلة، وآخرون يرون مكمن الأسباب في ارتفاع الأسعار فيتبرعون بالحلول وهي فتح الأسواق بلا رقيب ولا حسيب للمستورد ومنع التصدير لما ينتج محلياً، وفريق ثالث يرى في الأنظمة الرسمية التي تحكم هذا الموضوع مضان العلة فإذا رفعت كل القيود النظامية فسنرى اختفاء المشكلة بطرفة عين حسب ما يرون، وفريق رابع ينظر إلى أن الاستقدام هو مكمن الحل وهو السبب والعلة. تعثر المشروعات الحكومية الإنشائية أصبح موضوعا حيويا لتقدّم الوطن والمواطن وهو بمنزلة عالية من الأهمية مما يستلزم طرحه ومناقشته بمنهج علمي وأن ينظر إليه بنظرة مهنية تحليلية فاحصة، فتشخيص الأسباب وتحديد الحلول وفق التشخيص الصحيح وهو ما ينبغي طرحه وإخضاعه للتحليل والمناقشة، لذلك توجهنا إلى المهندس صالح بن ظاهر العشيش بمجموعة من الأسئلة تحاول تستنطق الأسباب الحقيقية لتعثر المشروعات الحكومية الإنشائية وسبل العلاج. @ "الرياض": ما هي المراحل التي تمر بها المشروعات الحكومية الإنشائية؟ - م. العشيش: المشروعات الحكومية تمر بأربع مراحل مفصلية ولكل مرحلة تفصيلاتها وخطواتها، وهذه المراحل على الترتيب هي: الأولى: مرحلة الدراسات والتصميم. هذه المرحلة هي الأولى من مراحل المشروعات، وهي الأساس الذي يبنى عليه ما بعدها من مراحل، تشمل باختصار شديد النشاطات التالية: - إعداد المتطلبات اللازمة وفق الوظيفة التي ينبغي أن يؤديها المشروع بمساعدة الجهة المستفيدة. - بلورة محددات التصميم. - تحويل تلك المتطلبات إلى برنامج فراغي (معماري). - استكمال التصميم ووثائقه بمراحله الأربعة وتجهيز وثائقه. - إعداد مستندات الطرح كاملة. @ "الرياض": أين توجد أسباب التعثر في هذه المرحلة ؟ وما هي الحلول ؟ - م. العشيش: تكمن أسباب التعثر في مرحلة الدراسات والتصاميم في الآتي: 1- عدم وضوح نطاق عمل المصمم، أو عدم التحديد بشكل مفصل ماله وما عليه من خلال وثيقة العقد الأساسية وما تتضمنه الشروط العامة والشروط الخاصة. الحل يكمن في إعداد نطاق عمل واضح ومحدد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا مجال فيه للعموميات أو التأويل، معد من صاحب خبرة ورؤيا، وأن لا تكون الشروط الخاصة مطية لنسف خصائص العقد الموحد، وقد أوضحت ذلك بشكل مفصل في كتابي "إدارة تصميم المشروعات". 2- التأخر الشديد في اعتماد مراحل التصميم من الجهات الحكومية، حيث من المطلوب أن يقدم المصمم للاعتماد كل مرحلة عند الانتهاء منها، وبعد الاعتماد يشرع في المرحلة التي تليها. الحل يكمن في التزام الجهة المالكة (أو المستفيدة) بتحديد مدد زمنية ثابتة في حدود عشرة أيام والتقيد بها لاعتماد كل المرحلة من التصميم وفي حالة التأخر في الاعتماد يمكن اعتبار انقضاء المدة المحددة بمثابة اعتماد، على أن يتم الاعتماد لكل مرحلة بعد مراجعة دقيقة لما قدمه المصمم لتصحيح الأخطاء وتوجيه الاجتهادات. 3- التعديلات المتتابعة على التصميم وهذه تمثل مشكلة رئيسة في تأخر إنجاز التصميم، وهذه التعديلات تنشأ إما من عدم كفاية مجال العمل وبرنامجه الفراغي من الأساس بسبب ضعف الإدارة الحكومية الفني والإداري أو بسبب التدخلات في اتخاذ قرارات متعلقة بصلب عملها، أو إن الجهة المالكة المستفيدة تسمح بإشراك كثير من الأشخاص في مناقشة تصميم المشروع فتتعدد الآراء وتزداد الحيرة وتتضارب التوجيهات. الحل يكمن في (كما تم التطرق إليه في النقطة الأولى)، وكذلك بتحديد الجهة الفنية فقط هي من يناقش ويوجه المصمم وإن كان هناك آراء واجتهادات فتكون عن طريق هذه الجهة حيث ينبغي تحليلها وغربلتها ومن ثم وضعها في إطار هندسي يساعد المصمم على سرعة الاستجابة. 4- ضعف كثير من المكاتب الاستشارية الهندسية وهذا شيء ملاحظ خصوصاً إذا دخلنا مجال تصميم المنشآت المتخصصة مثل المستشفيات والمصانع بالإضافة إلى ضعف في تأهيل بعض مهندسي الجهة المالكة والذين لا يستطيعون تعويض القصور لدى المكاتب. الحل: يعود السبب في هذا الضعف إلى قيام الجهات المالكة بعملية التصميم ذاتياً وهذا أدى إلى ضعف تجربة المكاتب الاستشارية بالإضافة إلى قصور في تأهيل المكاتب ومتابعة أداءها، من هنا ينبغي أن يقتصر دور الجهات المالكة على إدارة عملية التصميم وضبط الجودة واعتماد طاقم التصميم حتى تؤدي هذا الأعمال بتركيز واقتدار، كما أن نقص التأهيل لدى متخذ القرار الفني سبب رئيس في ذلك فقد يكون جيد الخبرة من الناحية الفنية البحتة ولكن يعوزه النظرة الشمولية. 5- قصور في دقة ووضوح وثائق التصميم: هذه الوثائق هي أساس العقد وهي ما يحكم العلاقة بين أطراف المشروع، فكثيراً من وثائق التصميم يعتريها نقص في المعلومات أو ضعف في دقتها أو قصور في شموليتها مما يوجد اختلاف في الآراء أثناء التنفيذ ويؤدي إلى الإعاقة، أو التأخير في أحسن الأحوال. الحل: إتباع متطلبات قياسية وهي موجودة في الكودات الهندسية، ومواصفات دقيقة وحديثة وشاملة مستندة إلى ما هو متوافر من مواد في السوق المحلية وإلى إصدارات الجمعيات الهندسية والمهنية المحلية والدولية لتحديد بالضبط محتوى وثائق التصميم من حيث الدقة والوضوح والشمولية وإتباع المتطلبات اللازمة لأداء المشروع مهمته بالإضافة لتوظيف الخبرة، كل هذا يقلص أسباب الاختلاف وربما يلغيها، وبالتالي يمنع التجاذب بين بين الأطراف ويجعل كل طرف يعرف دوره في المشروع تماماً وما هو المطلوب منه، كما أن تأهيل المهندس الحكومي في هذا المجال أمر حيوي للغاية. 6- التعارض بين وثائق العقد: التعارض الذي يحدث بين المخططات الهندسية نفسها وبينها وبين المواصفات أو جداول الكميات يؤدي إلى اختلاف بين أطراف العقد وهذا الاختلاف إن كان هندسياً بحتاً يمكن حله بأقل الأضرار، لكن إن كان التعارض يترتب عليه مسائل مالية وإدارية فهنا تكمن المشكلة، حيث أن ذلك يؤدي إلى تباين في وجهات النظر والتي قد تعرقل سير إنجاز المشروع وخصوصاً المواصفات وجداول والكميات. الحل: إجراء مراجعة دقيقة لوثائق التصميم تحد من حصول هذا التباين وهناك إدارات لديها قسم مراجعة التصميم يتولى هذه المهمة أو تكليف مكتب هندسي مؤهل بإجراء هذه المراجعة. ويجب التشديد على عنصرين مهمين وهما المواصفات وجداول الكميات، هذان العنصران يجب أن يكونا معدين بشكل كامل ومتطابقين في منطوق نص بنودهما لأنهما هما مصدر أغلب مشكلات الخلاف بين أطراف العقد، وبالتالي تعثر المشروع. 7- وفرة الأراضي: وجود أرض مناسبة من حيث الموقع والأبعاد والتضاريس أمر مهم للغاية لإنجاز المشروع، فإذا اختل أحد تلك الخصائص أدى ذلك إلى تأخير المشروع. الحل: التخطيط المسبق للحصول على الأرض، أي يجب أن يكون هناك خطة للاحتياج من الأراضي لدى المصالح الحكومية قبل بدء التصميم حتى يكون التصميم وفق خصائص الموقع لا أن يكون التصميم معد من دون معرفة الموقع وما يسببه ذلك من مشكلات التعديل والتي تؤخر إنجاز العمل. كما أن هناك مسألة مهمة لمعاجلة شح الأراضي وهي تحديد أراضي للجهات الخدمية في المخططات الجديدة كنسبة من المساحات العامة كما هو متبع مع الشوارع والحدائق وغيرها. @ "الرياض": ما هي المرحلة التالية للمشروعات الحكومية الإنشائية؟ - م العشيش: المرحلة الثانية من مراحل تنفيذ المشروعات الحكومية وتمتد من الإعلان وحتى توقيع العقد، وهي تشمل بإيجاز شديد ما يلي: 1- إجراءات الطرح والترسية وهذه تبدأ بالخطوات الإجرائية للإعلان عن المنافسة في الصحف وحتى توقيع العقد مروراً بمدة الإعلان وهي شهرين، وثم تشكيل لجنة فتح المظاريف، وبعد ذلك التحليل المالي والفني ومن ثم عرضه على لجنة البت، يلي ذلك اعتماد صاحب الصلاحية، ثم رفع مسودة العقد إلى وزارة المالية لإجازته، يليه إعادته إلى الجهة المستفيدة للتوقيع، وبعده يتم توزيعه على الجهات الرقابية وإصدار خطاب الترسية. هذه الإجراءات مهمة وضرورية لكن تكمن المشكلة في الممارسة الخاطئة ذات الأفق الضيق والتي تركز على الجزئيات وتهمل الكليات مثل أن تلغى المنافسةً لأسباب إجرائية لا تأثير لها أو تأخر بعض الصحف بالإعلان عن المنافسة ونحو ذلك، أو تأخر إجازة العقد من وزارة المالية. الحل: هو في تنظيم هذه الإجراءات وإعادة صياغة هذه الخطوات بشكل مفصل ودقيق بحيث تتبعه الجهات المستفيدة من دون أن يكون هناك اجتهادات تؤدي إلى وقوع أخطاء، وبما بمنع من وجود ثغرات تكون سبب في تعطيل إجازة العقد، مع تقنين مواعيد البت لكل إجراء فمثلاً أن يتم التحليل المالي والفني في نفس الوقت وأن يكون الانتهاء منهما خلال أيام بعد فتح المظاريف وهكذا، وبعض منها يمكن أن يتم بالتزامن ويمكن طلب الأشياء الناقصة فيما بعد والتي لا تؤثر على مجرى الترسية. 2- الاعتمادات المالية: تقدير الاعتمادات المالية لا يتم على أسس علمية ووفق الخطوات والإجراءات التي تنظم هذه العملية والمتبعة في هندسة التكاليف ومعروفة لمهندسي التكاليف بل تتم بالقياس لبعض الأشياء وبيانات تاريخية، وعلى التخمين ولهذا تأتي الاعتمادات أقل وغير مواكبة لحركة السوق مما يؤدي إلى إيقاف إجراءات استكمال المشروع حتى يتم تدعيم الاعتماد المالي أو تأجيل بنود وكلا الحالتين تؤدي إلى تأخير المشروع بل ربما تعثره. الحل: أن يتم تقدير التكاليف وفق أسس علمية تعتمد على نشرات حديثة لأسعار المواد والتي يجب أن تكون إدارة في وزارة التجارة والصناعة وعلى معادلات وطرق علمية معروفة في أدبيات هندسة التكاليف والتي منها طريقة تقدير الغلاف الخارجي، وطريقة تقدير نموذج التكلفة المعلمي وغيرها من الطرق الأخرى وهي مشروحة في نفس الكتاب المشار إليه آنفاً.