شرعت الدولة في السنوات القليلة الماضية بضخ مليارات الريالات لإنشاء المشاريع الاستراتيجية ومشاريع البنية التحتية العملاقة لجميع مرافق الدولة أفرز ذلك تعثر العديد منها. ومهما كان عدد المشاريع المتعثرة فإنها بالتأكيد تشكل عبئاً إدارياً وهدراً ماياً على الدولة إضافة إلى آثار سلبية أخرى متعددة اجتماعية ومعنوية. وتتوزع مسؤوليات تعثر المشاريع الحكومية على عدة أطراف، منها المقاولون والاستشاريون والجهات الحكومية المعنية بالإشراف والأنظمة الحكومية المنظمة لقطاع المقاولات، أو الجهات الحكومية الأخرى التي لها علاقة بهذه المشاريع كالجهات المستفيدة والبلديات. وتختلف نوعية وعدد الأسباب المؤدية إلى تعثر المشاريع من مشروع لآخر فلربما يتعثر مشروع ما بكامل أسباب التعثر وربما ببعضها وربما بسبب واحد أو ينفرد مشروع ما بأسباب تعثره الخاصة. ويأتي الإنفاق الحكومي الضخم على إنشاء هذه المشاريع في مدة قصيرة مع غياب خطة حكومية إستراتيجية عليا لتنظيمها كأحد الأسباب المحورية لذلك، بالإضافة إلى أسباب أخرى منها استخدام بعض المقاولين آلية التصنيف للحصول على عدد أكبر من المشاريع الحكومية ومن ثم التنازل عنها أو بعضها لمقاولين آخرين ربما غير مصنفين وغير مؤهلين وبالتالي تعثر هذه المشاريع وتسليمها بعد معالجة تعثرها إلى الجهات الحكومية المعنية بجودة أقل من المطلوب في وثائقها وبمدد زمنية يصل إلى ضعف المدد الزمنية المطلوبة في عقودها. ومن ذلك وجود ثغرات وقصور في دراسات بعض المقاولين لوثائق المشاريع المقدمة للمنافسة وذلك لعدم منحهم هذه الدراسات الوقت الكافي والاستفسار من الجهات الحكومية ذات العلاقة عن أي قصور أو غموض في أي نوع من وثائقها حيث تنشأ نتيجة لذلك خلافات بين الأطراف المعنية لها آثار سلبية على تقدم أعمال المشاريع. ومن الأسباب أيضاً تعثر بعض الجهات الحكومية في الإشراف على مشاريعها إما لضعف أداء الاستشاريين معها أو البطء في اتخاذ القرارات المرتبطة بهذه المشاريع بسبب مرورها بسلسلة من الاجراءات (البيوقراطية) وتعدد الاجتهادات وغموض في تحديد المسؤوليات والصلاحيات، أو لعدم وجود بنية إشرافية لديها حيث وجدت بعض هذه الجهات نفسها تشرف على عدد كبير من المشاريع فوق طاقتها. إضافة إلى قلة الكوادر الهندسية السعودية المؤهلة للإشراف لديها وقد أشرت في مثال سابق في جريدة «الرياض» تحت عنوان (كادر المهندسين رهين الدراسة سنين) العدد 5656 بتاريخ 3/6/1432ه إلى أن تسرب المهندسين السعوديين المؤهلين إلى القطاع الخاص سيؤثر سلباً على تواجدهم في مواقع الإدارة والإشراف على تنفيذ مشاريع الدولة من حيث العدد والكفاءة وبالتالي المساهمة في تعثرها. كما أن عدم استخدام هذه الجهات أدوات القوة التي كفلها لها النظام والعقد مثل غرامات التأخير والحسم قد أدى إلى عدم مبالاة بعض المقاولين بالمدد الزمنية للمشاريع ويلعب عزم الجهة المشرفة على تطبيق غرامة التأخير عاملاً إيجابياً لدفع مقاوليها لإنهاء مشاريعهم في المدد المحددة لها. إضافة إلى ما أسلفت من الأسباب وجود ثغرات وقصور في وثائق تصاميم بعض المشاريع ناتجة عن عدم دراستها دراسة متكاملة وحديثة من قبل المكاتب الاستشارية الممثلة للجهات الحكومية، حيث إن هذه الثغرات كفيلة بأن تؤخر تقدم المشاريع أو توقفها في أي فترة من فترات عمرها بسبب الخلافات التي تنجم بين المقاولين والجهات المشرفة يترتب عليها تعديلات على أعمال المشاريع أثناء مراحل التنفيذ من حذف وإضافة وبالتالي إصدار أوامر تغيير يترتب عليها زيادة تكاليف هذه المشاريع ومددا زمنية إضافية لها وتبعاً لذلك تمديد عقود الإشراف أيضاً، ويلجأ المقاولون في مثل هذه الحالات إلى استغلال أوامر التغيير تلك لإطالة المدد الزمنية الأصلية لهذه المشاريع. ومن ضمن الأسباب كذلك لجوء بعض الجهات الحكومية إلى استخدام عقود design and built (التصميم والتنفيذ) خاصة للمشاريع العملاقة تلافياً للإجراءات النظامية لطرح أعمال التصميم توفيراً للوقت والجهد وهذا النوع من العقود مليء بالثغرات الكفيلة بنشوء واستمرار الخلافات بين الجهات المشرفة والمقاولين وما يتبع ذلك من إصدار أوامر تغيير لها سلبياتها المادية والإدارية والزمنية كما أسلفت. ويأتي الفساد المالي والإداري بكافة صوره وأشكاله كآخر الأسباب المؤثرة في تعثر المشاريع. ويعتبر قطاع المقاولات هو البيئة الخصبة لممارسة الفساد بسبب ضخامة الأموال التي تضخ فيه سنوياً وتعدد الأطراف المشاركة فيه، سواء كانت ظاهرة أو باطنة، وقد أوضحت دراسة مختصة أن حالات الفساد في مشاريع الدولة يتركز (90٪) منها في قطاع المقاولات. ومن الأسباب أيضاً ما يعانيه هذا القطاع من قدم الأنظمة الحكومية المنظمة له وعدم مسايرتها لضخامة الإنفاق الحكومي وحيويته وسرعته وخلو هذه الأنظمة من إجراءات رادعة للمقاولين المتلاعبين بالمشاريع. وأخيراً وليس آخراً فإن معالجة تعثر المشاريع الحكومية لا تقتصر فقط على المعالجة الحالية للمشاريع المتعثرة بل يتعدى ذلك إلى تبني خطة وقائية للحد من تعثر مشاريع أخرى في المستقبل يتمثل في معالجة وتلافي الأسباب المؤدية إلى ذلك بتضافر جهود الأطراف المعنية بها. وفي مقدمتها الجهات الحكومية المعنية بالإشراف التي يتعين عليها أولاً التريث والامتناع عن الشروع في تنفيذ المشاريع التي تمت ترسيتها إلى حين توفير البيئة الإدارية والفنية والتأكد من جاهزية جهاز الإشراف والمقاولين لذلك، وإطلاق المشاريع المتعثرة لديها حتى لا تجد هذه الجهات نفسها وسط مجموعة كبيرة من المشاريع المتعثرة وبالتالي يصرفها عن ممارسة مهامها الأصلية في الإدارة والإشراف المهني على هذه المشاريع وتحقيق الجودة في مخرجاتها، وثانياً عدم طرح مشاريع جديدة للمنافسة حتى يتم التأكد من جاهزية واكتمال وثائقها من الناحية الفنية، وثالثاً تطوير الإجراءات الإدارية والمعلوماتية لإدارة المشاريع لديها، وذلك للنأي بهذه المشاريع من الوقوع في فخ التعثر ما أمكن ذلك. وختاماً أسأل الله أن أكون قد وفقت في عرضي هذا عن تعثر المشاريع الحكومية. والله من وراء القصد.