ما أريد استعادته هو ما كنته قبل السرير، وقبل السكين، قبل دبوس الزينة والمرهم الذي ثبتني في هذه الجملة الاعتراضية؛ خيول طليقة في الريح، مكان، زمان يجري خارج الفكر الكتابة خلاص يمنح الإنسان حياة ضمن حياته المعتادة ولكن ما أن تصبح الحياة عقيمة وبليدة في كافة مظاهرها فإنه يصعب استعادتها في أعماق الروح.في حياة المبدعة هناك حياة أخرى من الأحلام الكبيرة والألم الكبير وهما الفاصلان في حياة الإنسان المبدع ويسيران في خط متواز تماما وما أن ينتصر الألم الكبير على الأحلام بدءا بالأحلام الصغيرة وانتهاءً بتلك الكبيرة حتي تصبح الحياة عقيمة ،ومعتمة ،وبطيئة ولا تمنح إلا القهر والقسوة والرعب أيضا بحيث تصبح خاوية وبلا معنى. هكذا كانت حياة سليفيا بلاث وهي شاعرة أمريكية ولدت في بوسطن عام 1932كانت الكتابة بالنسبة لها خلاصا وجوديا لم تتمكن من الإمساك بها كما ينبغي لشاعرة وكاتبة تمتلك مثل روحها المحلقة. سيصعب علي أن أعرف نفسي في الظلام الدامس وبريق هذه الأشياء الصغيرة أحلى من محيا عشتار بدأت في الانجراف وراء الرغبة العارمة في إيذاء الذات وتبكيتها بعدما وجدت أن معاناتها تكبر مثل نار لا تتوقف عن التهام روحها وأنها لم تعد ترى بريق الأشياء الصغيرة في الظلام الدامس تقول عن الكتابة "الحاضر بالنسبة إليّ يعني الأبد، والأبد يجري ويذوي بلا انقطاع. كل لحظة هي حياة، وكل لحظة تمضي هي موت. أشعر بأنّي مسحوقة تحت ثقل الأزمنة، فأنا الحاضر، وأعرف أني زائلة بدوري. هكذا يرحل الإنسان.أما الكتابة، اللحظة الأسمى، فتبقى وتمضي وحيدة على دروب هذا العالم".. التقت سليفيا بلاث بالشاعر تيد هيوز، أحبته، وتزوجته في عام 1956.وقد بدت حياتهما في بدايتها نموذجا مثاليا لشراكة أدبية يفترض أنها ناجحة باعتبار أن الرجل المثقف يمتلك من الوعي ما يكفي لجعل حياة امرأة مبدعة تمتد بامتداد الأرض والسماء والحلم فقامت سليفيا بطباعة أعمال زوجها الشاعر هيوز وعملت على توزيعها على دور النشر آنذاك وهو بالمقابل في تلك الفترة قام بتشجيعها لتعزيز هويتها الشعرية. في خريف عام 1957كان زوجها هيوز محاضراً في كلية سميث، بينما حاضرت سليفيا بلاث في جامعة ماساشوستس، وكانت أستاذة ناجحة، لكنها مثل العديد من الكتاب، وجدت أن التدريس سرق منها الوقت والحياة التي تتطلبها الكتابة والإبداع. فتركت التدريس وكرست وقتها لكتابة الشعر. لم يتمكن زوجها من احتمال كونها امرأة مبدعة على نحو خاص وفي عام 1962، انهار زواجها، بعد أن فُرض عليها أن تصبح مجرد زوجة وأم تعيش في ظل زوجها وهذا ما رفضته بشدة، وعبّرت عن ذلك بكتاباتها ومذكراتها ويومياتها ورسائلها لأمها التي أكدت فيها صعوبة الجمع بين الأمومة والأعباء المنزلية المفروضة على المرأة من جهة وكتابة الشعر والإبداع الأدبي من جهة أخرى. على بعد مسافة روح رجل سرق أنفاسها واحتجز كيانها كتبت قصتها القصيرة "صندوق التمني" الذي كان صندوقا اسود مليئا بالألم، كانت القصة التي عبرت عن روح المبدعة التي تعيش صراع حياة الإبداع والفكر والحياة اليومية القاهرة التي تسرق منها تلك الروح. وتشير بلاث في قصتها القصيرة "صندوق التمني"، إلى الصعوبات التي تواجهها المرأة المبدعة التي لا تستطيع أن تحلم أحلاماً كبيرة متنوعة، وهي سجينة عالم ذكوري يفرض قيوداً متينة لا على حركتها فحسب، بل على أحلامها وآمالها التي ينبغي ألا تتجاوز إطار الزواج والمنزل الذي يقضي على خيالها وأحرفها، ولذلك فحياتها اليومية لا تتجاوز حدود المنزل، بعكس الرجل المبدع أو الشاعر -الذي يتحكم في حياته ويمتلك تفاصيلها اليومية بالمقابل تظل المرأة المبدعة تشعر أنها لا تجد لنفسها أي مصدر للإلهام في خضم حياة على هذا النحو، فأحلامها الخاصة التي أمنت بها وأحبتها لم تكن تعني الزوج بأي حال من الأحوال فيما تسير الحياة اليومية والإبداعية في طريق لا يمنحها شيئا ولا يمنحها خيارا إلا أن تقضي حياتها لتسمع ما يقال لها. وفي هذه القصة تنقل الشاعرة بشكل رمزي صوراً من حياتها الخاصة، عندما قضى الزواج على أحلامها الكبيرة وطموحاتها، فقد كرست حياتها لخدمة أهداف زوجها متناسية هويتها وكيانها وأحلامها إرضاء لزوجها وللمجتمع الذي يضع نجاح الرجل في المقام الأول ولو على حساب جهود النساء. اختفى صندوق التمني الذي كانت تراه في طفولتها ليحقق لها أمنياتها أو ربما سرق، ولم تعد تذكر كيف ولماذا. كانت أحلامها ملونة رائعة تحلق فيها بحواسها كافة، لكنها الآن أصبحت مجرد كوابيس قاتمة. وترمز بلاث في هذه القصة إلى معاناة المرأة المبدعة والحالمة في عالم يحرر الرجال ويسمح لهم بتحقيق أمنياتهم، بينما يكبل النساء ويفرض على أحلامهن قيوداً صارمة، فينتهي بهن المطاف بأن يفقدن أحلامهن وخيالهن الخصب إلى الأبد ولا يجدن لهن مكاناً في عالم الفن والأدب والإبداع. في تلك السنوات القاهرة من حياتها عانت سليفيا من الضغط العصبي والمرض ولكنها بقيت تعنى بأطفالها وزاد من حزنها أنها تركت وطنها لتعيش في انجلترا مما سبب لها مزيداً من الحزن والألم لتركها وطنها. ومع كل هذا التشرد الروحي والإنساني الذي عاشته، كتبت أجمل قصائدها، فكانت تستيقظ في الساعة الرابعة صباحاً لتكتب قبل موعد استيقاظ أطفالها. بدأت تكتب بسرعة وحرية، وتميزت قصائدها الأخيرة بالسمو ووضوح الأنا في سياق شجاع بعد أن كانت تكتب وهي تضع رأي القراء نصب عينيها. وفي عام 1963انتحرت سيلفيا بلاث بعد أن نضجت آلامها على نحو مريع وكانت ما تزال في الثلاثين من عمرها، تاركة وراءها مجموعات عديدة من الشعر والقصص القصيرة وروايتين، بالإضافة إلى مذكراتها ورسائلها التي يمكن من خلالها معرفة تاريخها ومعاناتها الحقيقية التي تتناول شكل حياة المرأة المبدعة التي لم تتمكن من ان تحلم أحلاما كبيرة او تحظى بمتسع من الحياة لتكتب وتعيش حياتها كما ينبغي لمبدعة وشاعرة حقيقية. ومن المؤلم أن زوجها قد عمل بعد موتها على التخلص من بعض أعمالها التي وجد أنها قد تمس بسمعته الشخصية وبأولادها في المستقبل، وما تزال بعض أعمالها محفوظة في مكتبة كلية سميث.