من منكم أيها الشباب يتزوج امرأة تكبره بحوالي العشرين عاماً؟ محمد عليه الصلاة والسلام فعلها، محمد قبل الوحي شغف قلب خديجة التي تجاوزت الأربعين، حتى اضطرت إلى إسكار والدها المتعصب الذي كان يرفضه لأنه يتيم أبي طالب. لم يصح أنه عمل لها بالتجارة، أو شاركها في الجاهلية، فتلك الروايات غير صحيحة، أما الصحيح فهو أن محمداً عليه السلام كان شاباً رائعاً يرى الحياة بعينين تختلفان عن أعين أقرانه.. كان ينظر للمرأة - شريكة يعقلها وروحها وجسدها ومشاعرها وكل ما فيها. أمضى حوالي ثلاثين عاماً من زهرة شبابه مع امرأة تكبره بعشرين عاماً تقريباً، وهو الذي كان مهوى أفئدة الفتيات، وفي مجتمع وزمن لا يعرف الحرام، ولا الحجاب، بل إن بعض النساء في الجاهلية كن يتعرين أحياناً عند الكعبة.. خديجة أول من أسلم على الإطلاق، فهي التي كانت في استقباله في أولى ساعات الوحي، وهي التي رفعت معنوياته بكلمتها المشهورة له في تلك اللحظات عندما قال لها: (لقد خشيت على نفسي. فقالت خديجة كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق - البخاري - 1- 4). وعندما بدأ بالدعوة كانت خديجة ذات الستين عاماً الملجأ.. كانت الملاذ بعد الله إذا كثرت الهموم ونزفت الجراح، فظل عليه السلام يذكرها من أعماقه قائلاً: (آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس - أحمد 6- صفحة 117حديث حسن). هذا النبي العظيم لم يحط من قدرها، ولم يهضم حقها، بل اعترف بجميلها عليه، ووقوفها معه، وتاريخها الطويل والمشرف.. لم يحتقرها ولم يزدرها، ولم يقل (الله يكرمكم) عندما يذكرها، ولم يخجل من ذكر اسمها.. كان يثقفها بالوحي، ويستفيد من تجاربها في الحياة، وكانت جزءاً لا يتجزأ من فريق عمله الدعوي التنويري الذي يخرج به الناس من الظلمات إلى النور.. كانت شريكة في المعاناة والدعوة والنضال، لكن للسن أحكامها، وللعمر حدوده.. كبرت خديجة، ووهن عظمها، وزادها صلف قريش ضعفاً، فكانت تذبل بين يديه، وبين نظرات بناتها الأربع زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة عليهن السلام.. حتى فارقت الحياة فبكاها وبكينها بحرقة ومرارة، فما مر به حزن كذلك الذي مر به عند فقد خديجة.. ويبقى في مكة دون زواج حتى يهاجر، وينتقل إلى المدينة، ويتزوج غيرها، أشب وأجمل، لكنه ينتقي لخديجة أجمل غرفة في قلبه، وتأتي مناسبة، والمناسبات أكثر حزناً عندما تأتي ونحن نفتقد حبيباً كان يملأ حياتنا، تأتي مناسبة فيذبح عليه السلام شاة فيقول: (أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة) يا الله.. حتى أصدقاء خديجة. من يفعل ذلك؟ فغارت عائشة رضي الله عنها، وكانت لا تغار إلا منها، رغم أنها لم ترها، ورغم أنها ميتة. تعترف عائشة بمشاعرها، وكيف لا تغار والمنافسة تحتدم على الفوز بقلب محمد صلى الله عليه وسلم، فتقول لحبيبها متسائلة: (خديجة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني قد رزقت حبها - صحيح مسلم 4- 1888) وفي أحد الأيام تزورهم امرأة فتستأذن، فيسمع عليه السلام صوتها، فترحل به الذكريات إلى خديجة فينشرح صدره. تلك قصة حفظتها لنا عائشة الوفية فتقول: (استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرف استئذان خديجة فارتاح لذلك، فقال: اللهم هالة بنت خويلد. فغرت - مسلم 4- 1889). تلك هي خديجة، وتلك هي ذكراها في قلب نبينا، وذاك هو الوفاء عندما يكون الزوج محمداً أو من يستضيء بمحمد عليه السلام، فهنيئاً لها بهذا القلب.. وهنيئاً لها بقصر في الجنة (من قصب "لؤلؤ") لا صخب فيه ولا نصب "أي لا تعب" - البخاري 2- 636). داخل عالمكما الخاص فقط.. داخل مملكتكما فقط: اختلف مع زوجتك.. تشاجر معها.. دعها تهجرك.. دعها تنزل كلمتك إلى الأرض، فكلمتك ليست وحياً، لكن لا تنس الوفاء.. فما بينك وبينها من الألفة والعشرة أكبر من تلك الاكسسوارات، تذكر أجمل ما فيها ستراه سحاباً يهمي ليغسل كل عيوبها.. فقد (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يفرك (أي لا يبغض) مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر - صحيح مسلم 2- 1019).. تذكر أن الكريم سبحانه يعطيك من الأجر على حسن الخُلق مع الناس، ما يفوق حسنات من يقوم طوال الليل في قراءة القرآن والصلاة، وما يزيد على أجر من يصوم كل نهاره يومياً، وزوجتك أقرب الناس إليك، والأقربون أولى بحسن الخُلق والمعروف. لا تبخل عليها بذوق تبذله لغيرها.. لا تجعل مشاعرها تذبل بداعي المشاغل، فلست أكثر إنجازاً من نبيك عليه السلام. ذات يوم (دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فرأينها سيئة الهيئة فقلن: ما لك؟ ما في قريش رجل أغنى من بعلك؟ قالت: ما لنا من شيء.. أما نهاره فصائم، وأما ليله فقائم. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له. فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عثمان أما لك فيَّ أسوة؟ قال: وما ذاك يا رسول الله.. فداك أبي وأمي؟ قال: أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار؟ وإن لأهلك عليك حقاً، وإن لجسدك عليك حقاً.. صل ونم، وصم وأفطر. فأتتهم المرأة بعد ذلك عطرة كأنها عروس، فقلن لها: مه؟ قالت: أصابنا ما أصاب الناس - حديث صحيح، ابن حبان 2- 19). تذكر كم قلقت عليك، وكم سهرت في انتظارك، وكم صبرت، وكم بكت من أجلك، وكم دعت لك، وكم هشت للقائك، وكم مرضتك، وكم ارتبكت و(اختبصت) وأنت تهجم عليها بضيوف على حين غرة، فلم يخرجوا من عندك إلا وعبارات الثناء تنصب عليك وحدك، بينما تنصب نظراتها المتثائبة على تلك الأواني التي تنتظر الغسل.. تذكر ذلك وأنت تعلم أنه حتى غسل ثيابك وطبخ طعامك ليس من واجباتها، فحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم يوجب عليك (أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت - حديث حسن في سنن أبي داود 1- 651) فكيف إذا كانت تعينك براتبها على نوائب الدهر.. ما أعظمها وأعظم أجرها عند خالقها حينذاك.. كن خير الناس، فرسول الله يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي - حديث صحيح، الترمذي 5- 709) لا تعر الشيطان سمعك، فعندما ننصت للشيطان ستصبح الزوجة أكبر أعبائنا، وعندما ننصت للرحمن، فإنه يقول: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).قل لها شيئاً جميلاً.. قل لها: أنت نعمة من الله.. قل لها ما يجعل الألفة تسافر أبعد من الدنيا: جمعني الله بك في الجنة.. قل لها ما يطربها.. أما أنتِ فكوني بين يديه ملاكاً. جعل الله أيامكم عامرة بالحب والوفاء.