إلى جانب ما يتمتع به الشعراء من خيال جامح وثروة لغوية كبيرة، فقد قيل بأن لهم تكويناً نفسياً خاصاً ومتميزاً عن سائر البشر، وهذا التكوين الخاص والمتميز يتجلى لنا في رهافة أحاسيسهم وصدقها أثناء التعبير عن قضايا الإنسان ومآسيه، وقد قيل أيضاً بأن أعصاب البشر تحت جلودهم أما الشعراء فأعصابهم فوق جلودهم" لذا نجدهم لا يكتفون بالتعبير عن مآسيهم وأحزانهم الخاصة فحسب، بل ويتعاطفون مع الآخرين ويتمثلون عواطفهم، ويعبرون عما يجيش في نفوسهم بحرارة وصدق، من خلال السطور التالية نشير إلى بعض الروائع الشعرية التي تمثل لنا إنسانية الشعراء وجمال أرواحهم، ولعلنا نبدأ بالإشارة إلى قصيدة من أجمل وأصدق القصائد الإنسانية في الشعر العربي، هذه القصيدة قالها الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي (ت 1364ه) مصوراً حال (الأرملة) في المجتمع، ومُعبراً عن تعاطفه معها، يقول الرصافي في بعض أبيات القصيدة: لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها مات الذي كان يحميها ويسعدها فالدهر من بعده بالفقر أشقاها الموت أفجعها والفقر أوجعها والهم أنحلها والغم أضناها فمنظر الحزن مشهود بمنظرها والبؤس مرآه مقرون بمرآها ويستمر الرصافي على مدى (37) بيتاً في تصوير وضع الأرملة تصويراً مؤثراً، مختتماً قصيدته بالرسالة التي أراد إبلاغها للمجتمع عن واجبه تجاه الأرملة. ولو نظرنا إلى الشعر الشعبي لوجدنا العديد من القصائد والأبيات التي تحمل مشاعر إنسانية سامية، ومن أجمل تلك القصائد رائعة الشاعر علي المفضي (نور الصدق) التي يبدو بأنه يعتز بها كثيراً، بدليل افتتاح ديوانه المطبوع (أسرار) بها، ووضع بعض أبياتها على الغلاف الخارجي لهذا الديوان، وتتميز هذه القصيدة بتعبيرها عن معنى الإنسانية بمفهومها العام وتتميز كذلك بكونها لا ترتبط بحالة إنسانية خاصة، يقول المفضي فيها: مجانين البياض قلوبنا تضحك ولا ترتاب ولو شمس الهجير تذيب أملنا في مرابعنا نفيض إخلاص نعطي من محبتنا بدون حساب نحسب الناس كل الناس نسخه من طبايعنا نرش الدرب للنشوان ولعينه نصير أهداب ونبكي لا بكى المجروح حر بكاه يدفعنا نحب النور لأجل النور لو نور النواظر ذاب تحملنا عنانا لو غرقنا في مدامعنا لنا في هامة العليا سكن ومن النهار ثياب ولنا من نفحة الطيب الشذى والحق يقنعنا نعيش أغراب بين الناس وإن متنا نموت أغراب وتنسانا العيون اللي لاجل سلوانها ضعنا ومن القصائد الجميلة التي تتضمن أبياتها مشاعر إنسانية صادقة قصيدة (يوحنا بولص) للشاعر غالب الشريف، ويُعبر فيها الشاعر عن تعاطفه مع المسلمين في جميع أنحاء المعمورة، ويُعبر كذلك عن حسرته ولوعته الشديدة على أوضاعهم، وكذلك يبدي استعداده لمشاركتهم بأمواله ودموعه: مسلم واسالم وديني دين جداني أبقى على اللي بنوه ودينهم ديني اليا بكى مسلم فالصين بكاني أزعل ليا من زعل وارضاه يرضيني والله العظيم إني أعده من اخواني واليا طلبني دبلت العشر عشريني ذا الحين دم العراقي راح مجاني والمسلمين وهل الإسلام لاهيني ألعن أبوالموقف اللي فيه حقراني يا والله الذي يا عيش الذليليني أما القصائد التي تتناول حالات إنسانية خاصة - على غرار ما رأينا في قصيدة الرصافي - فهي كثيرة جداً في شعرنا الشعبي، وسأكتفي بمجرد الإشارة إلى نموذجين من تلك القصائد؛ فمن تلك القصائد على سبيل المثال قصيدة (حادثة مدرسة مكة) للشاعر فهد المساعد، وهي قصيدة رائعة ومشحونة بالحزن أبدعها الشاعر على إثر حريق في احدى مدارس البنات في مكة، تسبب هذا الحريق في موت عدد من الطالبات، وفي هذه القصيدة يُعبر الشاعر عن موقفه من الإهمال حينا يتسبب في الموت، ومما يمكن ملاحظته أن هذه القصيدة كونها تمزج بين الرثاء والمدح والسخرية التهكم، يقول الشاعر في بعض أبيات القصيدة: بالمدرسة والحزن ماله مراسي والدمع ما عادت مراسيه الأهداب برد الصفوف.. الطاولات.. الكراسي صوت الجرس جوع الشبابيك.. الأبواب هناك كان السور أبوقلب قاسي يبكي من الوحشه على فقد الأحباب وهنا رماد كان منهج دراسي في كف بنت ضمها طين وتراب يا أهل الحرم والله ماجيت أواسي جيت أرتدي من رعشة ايديكم ثياب أنتم هلي وأنتم ربوعي وناسي خوات واخوان وعجايز وشياب أما نموذجنا الثاني والذي لا يقل روعة وحزناً عن نموذجنا الأول، فهو قصيدة (وجدان) التي أبدعها الشاعر عبدالله عبيان اليامي في الطفلة وجدان الكنيدري ( 12سنة) التي قتلتها يد الإرهاب في الرياض، وهذه القصيدة ليست مجرد رثائية شجية وحزينة لوجدان، بل هي إدانة صريحة للإرهاب، وتعبير صادق عن الوطنية والانتماء، وقد نجح الشاعر نجاحاً باهراً - في نظري - في استخدام تقنية (القناع)، فقد استطاع من خلال هذه القصيدة تقمص شخصية وجدان، والتعبير من خلالها عن رؤاه وأفكاره من قضايا هامة كالوطنية والإرهاب: يمه ذيل شوفي وضاق الكون بأحلام السنين والنور غاب وكل شهقه وثقت مخلابها يمه وليش أموت وانا أشوف دمعك مرتين تكفين يا أغلى من سكن عيني وضم أهدابها لا تجرحك تلويحة الكفين والصوت الحزين وقت احتشاد البرد والعبره تسوق اسرابها طفله ولكن ما يزعزعني كلام الخاينين لا بارك الله فالعقول الفاسدة وإرهابها يمه عسى ربي على الفرقا يعين الصابرين ودعتك الله يا مدينة ما تبيع أحبابها يمه حمام الدار يمه لو سأل وجدان وين وغنى وقال الله عليها طولت بغيابها قولي لك الله ما يموت الحق عند المسلمين مادام للسيفين والنخلة وطن يزهابها يمه وقولي للوطن يمه صباح الياسمين لجله نبيع الروح يمه ما نحسب حسابها في ختام هذا الحديث القصير أقول بأنه كان بودي أن أذكر هذه القصيدة والقصائد السابقة لها كاملة، نظراً لما تحمله من جمال ومعاني إنسانية نبيلة تُعبر عن قضايا الإنسان وأوجاعه، لكن مساحة المقال الصغيرة تضيق عن قول كل ما أحب قوله عن الشعر والشعراء والإنسانية.