رأيت في تركيا وماليزيا وأندونيسيا مخطوطات ولوحات قديمة كتبت بالأحرف العربية.. فهذه الدول كانت حتى وقت قريب تستعمل الأبجدية العربية في تدوين لغتها المحلية (والبعض مايزال يفعل ذلك؛ كباكستان وأفغانستان وإيران وأجزاء من الهند).. فحين فتح أجدادنا تلك البقاع نقلوا معهم لغة القرآن وكيفية استعمال الأحرف العربية في الكتابة والتدوين.. غير أن عصور الاستعمار وتراجع النفوذ والثقافة العربيين شجع شعوب كثيرة على استبدال الأبجدية العربية بالأبجدية اللاتينية التي تكتب بها اللغات الأوربية الحديثة.. فتركيا مثلا تخلت عن الأبجدية العربية بأمر من كمال أتاتورك في حين تخلت عنها أندونيسيا أيام الاستعمار الهولندي (ومازالت تكتب حسب اللفظ الهولندي).. أما ماليزيا فتخلت عنها بالتدريج زمن الاستعمار البريطاني (حتى تراجعت اليوم الى حدود المدارس القرآنية) في حين منعت بالقوة في أوزباكستان وتركمانستان زمن الاحتلال الروسي واستبدلت بالأبجدية الروسية!! ... ومن المعتقد أن الأبجدية العربية ذاتها تطورت عن الأبجدية النبطية في القرن الرابع الميلادي (أي قبل بعثة نبينا محمد بمائتي عام على الأقل).. وخلال هاتين المائتين (التي نعرفها باسم الجاهلية) شهدت ازدهارا نوعيا بفضل الإبداع الشعري والبلاغي للعرب. وحين نزل القرآن اكتسبت زخما أكبر وانتشرت مع الفتوحات الإسلامية حتى شملت نصف العالم القديم.. ولكثرة دخول غير العرب في الاسلام خُشي على سلامة الحرف العربي من التحريف واللحن فتم تشكيله وتنقيطه وترقيمه (واختُلف في أول من فعل ذلك بين أبو الأسود الدُّؤلي ونصر بن عاصم الليثي).. ورغم تراجع النفوذ السياسي والثقافي للعرب مع ضعف الخلافة العباسية إلا أن الأبجدية العربية (بوصفها حاوية القرآن والسنة) حافظت على مواقعها القديمة في الأقطار الإسلامية.. ولكن حين اجتمع الضعف العربي مع الاستعمار الأوروبي الحديث ألغيت الأبجدية العربية بقرارات رسمية لدرجة منع تدريسها في المدارس أو استعمالها في الصحف والمطابع! .. أما الظاهرة الأكثر خطورة والتي بدأنا نلمسها في آخر عقدين فهي بوادر انحسار مشابهة داخل الأوطان العربية ذاتها.. فمن الملاحظ مثلا أن معظم الصحف والمجلات العربية (التي يفترض وقوفها كخط دفاع أخير) لا تتردد في استعمال الأبجديات الأجنبية والأرقام اللاتينية بحجة "أصلها العربي".. ولكن الحقيقة هي أن الأرقام الأوروبية الحديثة (رغم اقتباسها من المغرب العربي) تطورت في أوربا ذاتها بعد القرن الخامس عشر.. والدليل على هذا أن الترقيم المستعمل في المشرق العربي حافظ على رسمه الأصيل منذ هارون الرشيد وحتى يومنا هذا ( وإذا رجعنا الى المخطوطات الرياضية القديمة كالجبر والمقابلة للخوارزمي وكتاب الفصول لأبي حسن الاقليدسي ورسائل اخوان الصفا لوجدناها جميعها كتبت بالأرقام العربية المشرقية الحالية)... على أي حال.. رغم تأكيدي على أهمية تعلم اللغات الأجنبية؛ إلا أن هناك فرقاً شاسعاً بين إتقانها وبين حشر أجزاء مبتورة منها ضمن اللغة العربية (كما نسمع في القنوات المهضومة).. وما أخشاه فعلا هو أن تؤدي مظاهر العولمة وتداخل الثقافات وضرورة استعمال الأبجدية اللاتينية في البرمجيات والعلوم التطبيقية إلى تراجع الأبجدية العربية حتى بين العرب أنفسهم!! (....... وكأن هذا لا يحدث الآن!!)