الحياة الاجتماعية كالألوان المُتَدرِّجة إلى ما لا نهاية، والنادر في هذه الألوان هو (الأبيض الخالص) و(الأسود الخالص) فلا يوجد إنسان كله حسنات، ولا يوجد إنسان كله سيئات، فالبشر يتأرجحون بين الإساءة والإحسان.. وحين نقول إن الحياة الاجتماعية كالألوان المتدرجة بلا نهاية، فنحن نعني هذا، لأن كل فرد من المجتمع هو نسيج وحده، وله لونه الخاص، بل إن الفرد الواحد يتدرج في الألوان حسب صحته النفسية والجسدية، وحسب ظروفه المختلفة، ومزاجه في تلك اللحظة، بحيث تكاد تجتمع ألوان الطيف في الإنسان الواحد متدرجة حسب المواقف والظروف، فحتى المراجل تحضر وتغاب كما يقول المثل الشعبي، والرأي يحضر ويعزب كما يقول المثل العربي.. وبعيداً عن الذين أمزجتهم سريعة التقلب كطقس لندن، فإن معظم البشر لا يثبتون على حزن أو سرور ليوم كامل فقط، فعواصف المشاعر تهب من كل اتجاه.. والمجتمع هو مجموعة أفراد في حالة تفاعل.. والصداقة من أجمل أنواع التفاعل الاجتماعي، فهي زواج الروح، وإذا كان الزواج الشرعي عرضة للطلاق، فكذلك زواج الروح بالصداقة عرضة هو الآخر للطلاق، فما سمي الإنسان إنساناً إلا لأنه ينسى، وما سمي القلب بهذا الاسم إلا لأنه يتقلب، لهذا نتفهم قول الشاعر القديم مع التحفظ: "إحذر عدوك مره واحذر صديقك الف مره فلرُبَّما انقلب الصديق فكان أعلمُ بالمضرَّه" ولكن ليس "ألف مرة" بل مرة واحدة تكفي.. والحذر هنا من إفشاء الأسرار الخاصة، أو المكاشفة بعد اوات الآخرين، فالعداوة لا خير فيها، وقليلها كثير، والعاقل يحاول تجنبها والإقلال ما استطاع، أما شدة الحذر مع الصديق فهي تفسد الصداقة، لأن الصداقة تقوم على المودة والإقبال والإخلاص وطرح التكلف، ولكن هناك خطوطاً حمراء في كل الأمور.. (أصدقاء السوء) وهم الذين يخدعون الإنسان الصادق بمودة كذوب وابتسام خداع وهم في أعماقهم لؤم، وهؤلاء موجودون في الحياة على أشكال وألوان.. يقول الشاعر الشعبي في أحد أصدقاء السوء: "دع الفاظ الموده ثم دعني وثوب الود خَلّه في مَجَرَّهء لبستَه حيلة والقصد طَعءني بخنجر وقع بظهري مَقَرَّه خَطاي اني لخوتكم دفعني نفوري من وجيه مكفهرّه نعم خُوَّة شديد الباس تعني لي اشياء كثر نجم المجرّه ولكن شفت منك ما وَجَعءني وكنّ الشبّ في عيني تَذَرَّهء صديق في الرخا لكن قَطَعءني بوقت ضاق بي بحره وَبَرَّهء صديق في الرخا لكن فجعني بيوم الضيق ما بيّن مسرَّهء صديقي لو يبي نفعي.. نَفَعءني وضحكة ناجذي دايم تسرّه وزماني لو يبعثرني جَمَعني خشيري في الزمن خيره وشرَّهء نويت اهنيك.. ولكن منعني شعور بالوفاء.. لله درّه! وهذي كلمة خذها وَدَعءني وثوب الودّ خله في مَجَرَّهء والشكوى من انكشاف الأصدقاء في الشدائد تملأ عنان السماء.. لأنه في الرخاء يكثر الأصدقاء ويختلط الصادق بالكاذب والشدائد هي النار التي تصهر معادن الرجال فيبين الذهب من الصدأ.. قال الشاعر: "دعوى الإخاء على الرخاء كثيرةٌ بل في الشدائد تُعءرَفُ الإخوانُ" @ ومن القول المشهور: "جزى الله الشدائدَ كلَّ خير وإن جَرَّعءنَني غُصَصاً بريقي وما مدحي لها حُبّاً ولكن عرفتُ بها عدوي من صديقي" ويقول محمد بن فايز (من شعراء القصب توفي سنة 1378ه رحمه الله): "من لا يصافيني والايام عَسءرَاتء كلّ إلى من طاب وقتي بغاني" ويقول الشاعر: "تحالف الناس والزمانُ فحيثُ كان الزمانُ كانوا عادانيَ الدهر نصفَ يوم فانكشف الناسُ لي وبانوا يا أيها المُعءرضُونَ عني عودوا فقد عاد لي الزمانُ"! وهؤلاء يسمون "أصدقاء الوظيفة.." والعاقل لا يلومهم فهو يعرف أنهم إنما صادقوه لأجل الوظيفة فإذا ذهبت ذهبوا معها.. إنما يخدع بهم الجاهل.. (الصديق الثعلب) وهو الذي يتظاهر بالصداقة، ويتصف كلامه بالحلاوة، وهو محتال نصاب يريد تحقيق أهداف أو كشف أسرار وهو حاقد حاسد كما قال الشاعر: "لا خيرَ في وُدِّ امرئ مُتَملِّق حلو اللسان وقلبُهُ يتلهَّبُ يلقاك يحلف أنه بكَ واثقٌ وإذا توارى عنك فهو العقربُ! يُعءطيكَ من طَرَف اللسان حلاوة ويروغُ منكَ كما يروغُ الثعلبُ"! @ @ @ وذلك المدعي الصداقة بحيلة الثعلب، وهو عقرب تنتهز الفرصة للدغ، هو في واقع الأمر عدوٌّ مبطن أشد من العدو الساخر، وهو يشبه الدنيا التي قال عنها الشاعر: "إذا امتحن الدنيا لبيبٌ تكشفَّتء لهُ عن عدو في ثياب صديق" @ @ @ ومن أمثالنا الشعبية حول هذا الموضوع، وبعضها عربي فصيح: - احذر خلاّن الرّخا.. عدّهم قوم! (والقوم هم الأعداء المغيرون) - الحر ما يصحب الديك. - الطَّعءنَة ما تجي إلا من رفيق! - كل كرهاً واشرب كرهاً ولا تصاحب كُرءهاً. - الصديق المخسّر عدو مبين. - صديق اليوم عدو باكر. - صديقك من صَدَقَك لا من صدَّقك. - الصديق الذي ما يسر مثل العدو الذي ما يضر. - لا بد للقناص من رفقة الكلب! - الصديق ما يبين إلا عند الضيق. - عدو عاقل خيرٌ من صديق أحمق. @ @ @ ويقول راشد الخلاوي في صديق السوء: "خليل على الشَّرات ما يستعز لي أعدى عداتي باسط لي مخالبهء خليل الجَفَان ومظهر الودوانء خَلَتء تخلَّى.. فكلب الكلب من لا يحاربهء! وكم حافر بير خباها لغيرهء فامسى خديع ذاق فيها معاطبه!" (والعدو أيضاً) والإنسان السيئ لا يصلح للصداقة قطعاً، لأن الصداقة أمرٌ حسن، ولا يجتمع السيئ مع الحسن.. ولكن مثل هذا بلاء حتى حين يجاهرك العداوة، قال الشاعر: "بلاءٌ ليس يُشءبهُهُ بلاءُ عداوةُ غير ذي حَسَب ودين يُبيحُكَ منه عرضاً لم يَصُنُهُ ويرتع منكَ في عرءض مصون"