إذا كان للصَّبر حدود، فإنَّ الصَّداقة لا تَعرف الحدود والقيود، ولكن لنَفتح صفحة الصَّداقة، ومدى الفائدة مِن العَدو الصَّفيق، والأخ الصَّديق! * وقبل مِئات السِّنين قال المُتنبِّي: ومِنَ العَدَاوَةِ مَا يَنَالُكَ نَفْعُهُ ومِنَ الصَّدَاقَةِ مَا يَضُرُّ ويُؤلِمُ! * في حين يقول آخر: احْذَر عَدوَّكَ مَرَّة واحْذَر صَدِيقَكَ أَلَفَ مَرَّة فَلَرُبَّمَا انقَلَبَ الصَّديقُ فَكَانَ أَعلَمَ بِالمَضَرَّة وفي توصيات الإمام الغزالي: إذا أراد المَرء أن يُهذِّب نفسه، فعليه أن يَستفيد مَعرفة عيوبه مِن ألسنة أعدائه، لأنَّ عين السَّخط والغَضب تُبدي المَساويَ والعيوب! وقديماً قال بعض العارفين: يَنتفع الإنسان بعدوٍ مُشاحن، أكثر مِن انتفاعه بصَديقٍ مُداهن! وعلى هذا القول، يُساق المَعنى الوارد في قول الشَّاعر العربي الحكيم: عِدَاتِي لَهُم فَضْلٌ عَليَّ ومِنّة فلا أَبعدَ الرَّحمنُ عَنِّي الأَعَادِيَا هُمُو بَحَثُوا في زَلَّتي فَاجتَنبتُها وهُم نَافَسُونِي فَاكْتَسَبْتُ المَعَالِيَا حسناً.. لنفترض أنَّ زيداً خَاصم عمراً، فما موقف أحمد الذي يُعتبر صديقاً للطَّرفين؟! هل مِن العَدل أن يكون بين خيارين أحلاهما مرّ، بمعنى أن يكون إمَّا صَديقاً لهذا، أو صديقاً لذاك، ويستحيل الجمع بينهما؟! الإجابة قد تخرج من بطون الكُتب، لا عجب «فالعِلْم بَحر»، وأوّل المثيرين لهذه القضيّة؛ هو الإمام الشَّافعي، حيث يقول: «إذا أطاع صَديقك عدوّك فقد اشتركا في عَداوتك»! أكثر مِن ذلك يقول شاعر قديم -قِدَم الإداري الواعد بإصلاح الفساد- يقول: إذا صَافَى صَدِيقُكَ مَن تُعَادِي فَقَد عَادَاكَ وانقَطَعَ الكَلَام إلَّا أن ابن المقفّع –كما يروي شيخنا الغزَّاوي- له رأي آخر، حيث يقول في «الدُّرَّة اليتيمة» في باب الصَّديق، ما هو حقيق بالتَّبصُّر والتَّأمُّل والتَّدبُّر: (إن رأيت صَاحبك مع عدوّك فلا يغضبنك ذلك، فإنَّما هو أحد رجلين، إن كان رجلاً مِن إخوان الثَّقة فأنفع مواطنه لك أقربها مِن عدوّك؛ لشرٍّ يكفّه عنك، وعورة يسترها منك، وغائبة يطّلع عليها لك، فأمَّا صديقك؛ فما أغناك أن يحضره ذو ثقتك، وإن كان رجلاً مِن غير خاصَّة إخوانك؛ فبأي حق تقطعه عن النَّاس، وتُكلِّفه أن لا يصاحب ولا يُجالس إلَّا مَن تَهواه)..؟! ثم يتداخل الشّيخ الغزَّاوي في المسألة ليقول: قُلت: ولا حاجة إلى التَّعليق على هذه المرويّات، وقول الإمام الشَّافعي: «إذا أطاع صَديقك عدوَّك فقد اشتركا في عَداوتك»، فإنَّه حقٌ واضحٌ بالإطاعة والموالاة، فأمَّا إذا كان على الوجه الذي فصَّله ابن المقفّع؛ فلا مُشاحَّة في أنَّه أجدر بالاعتبار، وأبعد عن الثَّرثرة، وأقرب إلى الإيثار، وحتَّى الشَّاعر فإنَّه يقول: (إذا صَافى)! وما نحن بصدد مَن أطاع ولا مَن صَافى، ولكن مَن أخلص النُّصح، وسَعى بالخير، وحافظ على المودَّة، (والصَّديق مَن صَدَقك لا مَن صدّقك)! حسناً.. ماذا بقي..؟! بقي القول: يا قوم تدبَّروا أصدقاءكم، ولا تحرجوهم في تحمُّل صَداقاتكم الخاسرة، وتُحمِّلوا غيركم أخطاءكم، فهي فروضٌ جائرة!.