مما لا شك فيه ان للإعلام دوراً بارزاً في تثقيف الناس وتوسيع مداركهم ونقل الصورة الحقيقية لما يدور حولهم، ولا يمكن القيام بهذا الدور على الوجه المشرف الا عندما يكون للاعلامي هدف نبيل يريد تحقيقه، ثم يمارس دوره المهني وفقا للأصول والضوابط المتبعة، مع التزام بأخلاقيات المهنة. هذا وان كانت المهنية في التعاطي الاعلامي مع اي حدث امرا مطلوبا فانه يتأكد اكثر في مثل هذا النوع من القضايا لما لها من تبعات قد تؤدي الى التجني على أحد طرفي القضية، او اتهام بتقصير دوائر التحقيق، او تشكيك في نزاهة القضاء. ولقد لفت نظري في الآونة الأخيرة قيام بعض وسائل الاعلام بمتابعة قضايا تدور في أروقة المحاكم، او هي تحت اجراءات التحقيق وتنتظر استكمال اجراءاتها لاحالتها للقضاء، وذلك لما لها من اهتمام لدى الرأي العام لأي سبب كان، وهذا أمر محمود في الجملة سيما اذا كان لدى الإعلامي ثقافة قضائية قانونية إضافة الى التزامه بأخلاقيات المهنة وفق الاصول والمعايير المتبعة، فبمثل هذه الطريقة يسهم في تثقيف الناس قضائياً، ويثريهم من الناحية القانونية ، ويكشف عن الملابسات الحقيقية لهذه القضية او تلك، وتكون بمنأى عما قد يقحم فيها من زيادة في الملابسات عند تداولها بين اوساط المهتمين، او ما يستل منها من وقائع بسبب كثرة الناقلين، او صياغتها بطريقة ركيكة تخل بالوقائع محل التقاضي، وما ينتج عنها من تصور قاصر أو مبالغ فيه في أذهان المتلقين. ولا يضر الإعلامي اذا كان يملك خبرة قضائية وقانونية ان يستعين بأهل الخبرة في هذا الشأن، شريطة ان يكون هذا الخبير محايدا، وليس طرفا يمثل أحد قطبي القضية. وبما ان الحاجة الى الثقافة القضائية تزداد يوما بعد يوم نظراً لتسارع عجلة الإصلاح وصدور كثير من الأنظمة فهو يشكل حاجة ماسة في قيام وسائل الإعلام بتثقيف الناس بكل نظام وتشريع يصدر، وكيفية الترافع، وأصول التقاضي أمام المحاكم. ومن خلال تتبع بعض ما يطرح في وسائل الإعلام لبعض القضايا التي قد تشغل الرأي العام وجدت بعض هذه القضايا قد طرحت بصورة مهنية عالية، تتمثل في الحياد، ومراعاة اصول المهنة، وتفهم طبيعة القضية، وترقب لنتائج التحقيق، واحترام لاستقلالية ونزاهة القضاء. ولكن هناك قضايا أخرى انتفى فيها أبسط أبجديات الحياد في الطرح، فسياق سرد القضية والواقعة قد يروى وفقاً لإفادة أحد طرفي القضية، دون اللجوء الى مصدر محايد مطلع على وجهتي نظر طرفي القضية. وجانب التعليق - بل والحكم أحياناً - يوكل لأحد طرفي التقاضي او من يمثله، ليحشد معه تعاطف الرأي العام ضد طرف غائب او مغيب لأي سبب كان.. وهذا اختزال للقضية في شخصية أحد أطرافها، وعرض غير محايد. كما ان بعض القضايا قد ينشغل بها بعضهم لما لها من بعد إنساني واجتماعي قد يستدعي انتباه ومتابعة المتلقين، ولكنه ليس مسوغا للاخلال بهذه المعايير، كما أنه لا يطغى على أصول التقاضي. ومما يجدر التنبيه له ان الأحكام لا تصدر وفقاً لمجرد التهم التي يصورها الإعلام او أحد طرفي القضية او الموجهة من المدعي العام ما لم تسند بإقرار او أدلة أخرى، ويجب ان يتفهم المتلقي ان الحكم يبنى على الأدلة التي تسند بها الدعوى إثباتاً او نفيا، وليس على مجرد التهمة الموجهة مع اغفال الأدلة، او على ضوء ما يصور في بعض وسائل الإعلام مما قد يتنافى مع الوقائع محل النظر القضائي، ومثله يقال في الدفع التي تدفع به الدعوى. كما ان الطرح يجب ان يكون بعيدا عن الأحكام المسبقة حتى من قبل المختصين، حتى لا يستغل اي منبرر إعلامي في محاولة حشد الرأي العام لترجيح كفة أحد طرفي التقاضي، أو تشكيل اي ضغط إعلامي واجتماعي يؤثر في سير العدالة ويربكها، او يسهم في ابتزاز أحد طرفي القضية لحمله على ما لا يريد. ان السبق الإعلامي ليس في استباق نتائج التحقيق، ولا في اصدار الأحكام المسبقة، وانما هو امر مغاير مثبت في مواثيق الشرف الإعلامي وأخلاقيات المهنة الصحفية. وعلى هذا الأساس فان استباق توجيه التهم عبر وسائل الاعلام قبل انتهاء التحقيق من قبل المختصين، او استباق الاحكام قبل الفصل فيها قضايا بحكم مكتسب القطعية قد يكون فيه تعد على أصحاب الاختصاص، وتجن على أحد طرفي القضية، فضلاً عما يحمله من إخلال بمبدأ المهنية والتخصص، مما قد يجعل أحدهم خصماً ومحققاً وقاضياً في آن واحد. وللتخلص من هذه الشمولية والازدواجية لابد من مراعاة المهنية الاعلامية بأصولها مع الاعتراف بآراء أصحاب الخبرة والاختصاص من المحققين، واحترام مبدأ استقلالية القضاء. وبالتالي فان أي اجتزاز واختزال أو مبالغة او انحياز لابد أن يسفر عن نتيجة وتصوير مشوه في ذهن المتلقي. @ القاضي بالمحكمة العامة في عرعر