تعتبر فئة المسنات في المجتمع من أهم الفئات التي تحتاج لعناية وعطف، وخدمات خاصة. وهذه الرعاية عادة ما يتولاها الأبناء والبنات والأحفاد فهي حالة طبيعية تمر حتما بكل إنسان، وغالبا ما تكون في نهاياتها سعيدة، لكن الحياة لا تخلو من مصائر مختلفة عن المصير الطبيعي لحياة الانسان حين يطعن في السن نتيجة للعديد من الأسباب: مثل عدم الانجاب، وقلة الأهل والأقارب، وعقوق الأبناء، أو وفاتهم، أو ابتلاء من الله لحكمة يعلمها. كل تلك الاحتمالات كانت تجول في خاطري، وأنا في طريقي إلى دار رعاية المسنات بالرياض من أجل إجراء هذه الجولة. عند دخولي لبوابة المبني كانت هناك إحدى نزيلات الدار سيدة في العقد السادس من العمر تتمشى في الحديقة أقبلت علي والابتسامة تملأ محياها، وبدت سعيدة بزيارتي وهي تحمل دمية لطفل لفته ببطانية، وتشير إليه بأن يلقي بالتحية إلي بادلتها الترحيب وأشارت لي بالتوجه إلى مدخل المبنى. والمبنى عبارة عن ثلاثة أدوار: الأول مخصص للإدارة، ويشمل التخصصات الاجتماعية والنفسية المطبخ والمشغل الفني والمغسلة، والثاني مخصص لمهاجع المسنات أما الثالث فمخصص للحالات النفسية. في مدخل الدار غرفة تديرها إحدى الموظفات أمامها العديد من شاشات المراقبة التي تصور الأروقة والمهاجع، كما لديها سجل بالزيارات، وعلى الجانب الآخر كان هناك قسم خاص بغسيل وكي الملابس وتشرف عليه موظفات سعوديات. أما المطبخ فتشرف عليه أخصائية تغذية وطباخة سعودية للعناية الخاصة بوجبات الطعام، ورأيت العديد من كراسي المساج موزعة في فناء الدار وجوانبها المختلفة لتسهل على النزيلات استعمالها. شروط قبول المسنات بداية تحدثت مديرة الدار الأستاذة (هيفاء آل الشيخ) عن طبيعة عمل الدار ومهامها تجاه هذه الفئة، قائلة: يتكون الكادر الوظيفي بالدار من عدد من أخصائيات اجتماعيات ونفسيات وطبيبة نفسية، وأخصائية للعلاج الطبيعي ومعها مساعدتان، وممرضات ومراقبات على مدار 24ساعة بما فيها الخميس والجمعة. وتواصل آل الشيخ: عدد المقيمات لا يتجاوز 65مقيمة، أما المسنات منهن فعددهن 27مسنة على مستوى منطقة الرياض وجميعهن يتلقين علاج النقاهة النفسية التي تؤهلهن للإندماج في حياة مستقرة وقابلة للعيش الطبيعي. وعن شروط القبول للإقامة في الدار، تشرح مديرة الدار تفاصيل هذه الشروط بقولها: تنطبق شروطنا عادة من أجل العناية بالمسنات اللواتي لا تتوفر لهن العناية الأسرية اللازمة بخصوصهن، وهي عدة شروط مثل أن تتعدى النزيلة سن 60عاما، وأن تكون سعودية الجنسية، وأن تثبت في التقارير خلوها من الأمراض المعدية والسارية، وأن لا يكون لها أولاد مقتدرين ماديا ويستطيعون أعالتها. وتقول مديرة الدار: رغم إدارتي لهذه الدار على مدى 8سنوات لاحظت أن حالات المسنات عادة لدينا لا ترتبط بقضية الاعاقة، كما يتخيل أكثر الناس من رمي الأبناء لآبائهم وأمهاتهم في دار المسنين فهذه عادات لا تليق بطبيعة العلاقات الاجتماعية الحميمة في حياتنا كمجتمع سعودي؛ بل هي لحالات تكون فيها المسنة ليس لها إلا بنات ولا تستطيع رعاية والدتها أما لبساطة الحالة المادية أو بسبب انزعاج المسنة نفسها من ضجيج الأطفال، أو أن يكون الابن يعمل في القطاع العسكري بنظام الورديات ولا يستطيع إعالتها طوال الوقت، أو تكون ساكنة عند شقيقها ولا يتوفر من يخدمها.. والمسن يحتاج لرعاية وخدمة خاصة، بدءا من تجهيز السرير الخاص والمهيأ بحيث يمنع حالة تقرح الفراش وتنظيفها اليومي، وكذلك تحتاج المسنة إلى تجهيز أكلها الخاص سواء، أكان عادياً أو مهروساً. وحين سألت الأستاذة هيفاء عن إمكانية تقديم الدار رعاية خاصة لبعض المسنات داخل منازلهن، بصورة تسمح لهن بسهولة العيش داخل العائلة، ونيل الرعاية المطلوبة في نفس الوقت. أجابت قائلة: هناك قسم بالوزارة خاص بالرعاية المنزلية، فعندما نجد المسنة داخل أسرتها رافضة للرعاية نقوم بتبليغ هذا القسم وتتلقى الأسرة المساعدة في الرعاية وعدد من الخدمات بل والتدريبات على العناية بهذه المسنة. وبخصوص بعض برامج إدماج المسنات في حياة طبيعية داخل الدار تقول مديرة الدار: الدار تقدم الرعاية الشاملة، صحية ونفسية وجتماعية، مثل برنامج "صديقة الأمهات" وهن فئة من المسنات ممن ترددن أكثر من مرة على زيارة الدار ووجدن محبة وانساجما من طرف نزيلات الدار. في هذه الحالة نقوم بإصدار بطاقة لكل من تتوفر فيها صفة (صديقة أم)، بحيث يسهل لهن زيارات منتظمة للدار على سبيل تخفيف شعور الوحدة لدى النزيلات... وهناك برنامج (التأهيل البسيط)، الذي يحتاج إلى مساعدة خاصة، وليس رعاية شاملة، وهو برنامج يعالج بعض الأمهات اللائي يشكين من عدم قدرتهن على رعاية أولادهن كما ينبغي، فنقوم بعقد تدريبات ودورات لهن، يتمكن من خلالها من إعادة الثقة بأنفسهن في رعاية الأولاد، فقد جاءتنا سيدة لديها ولدان، ولكنها لم تكن قادرة على أن تعتني بنفسها مثل الاستحمام اليومي والدخول للمطبخ لأعداد بعض الوجبات البسيطة، وبعد أن تلقت بعض التدريبات البسيطة والمنتظمة تحولت إلى إنسانة أخرى، وأصبحت تغسل وتكوي ملابسها بنفسها. حالات نفسية مع المسنات تنظم الدار رعاية صحية متميزة للمسنات، مثل إعداد ملفات طبية لهن بالعديد من مستشفيات الرياض كمستشفى الملك خالد الجامعي، مجمع الملك سعود الطبي ، وتعقد الدار لنزيلاتها مراجعات بصفة دورية، وهناك جرد أسبوعي لكميات الأدوية التي تحتاجها النزيلات وتتم مخاطبة إدارة الخدمات الطبية بالوزارة في هذا الشأن. وعن هذه الرعاية تقول مديرة الدار: حتى الأدوية التي لا تتوفر نقوم بشرائها من الصيدليات الخاصة، وتقوم إدارة الخدمات الطبية بدفع تكلفة فواتير الدواء، فنحن نوفر الدواء أيا كان سعره، وكذلك أدوية الحالات النفسية للنزيلات، ففي كل 6أشهر ترسل إدارة الخدمات الطبية، قائمة بأسماء الأدوية التي نحتاجها للمقيمات كالمضادات الحيوية ومخفضات الحرارة والمسكنات، أما أدوية الأمراض المزمنة كالضغط والسكر والأدوية النفسية فهي تصرف بحسب المعيار والكمية الملائمة للحالة الصحية لكل مريضة، من نزيلات الدار والحالات النفسية المتواجدة في الدار ليست خطيرة إطلاقاً. وتواصل آل الشيخ حديثها، ردا على بعض وسائل الإعلام التي انتقدت وجود اللواتي يعانين من حالات نفسية بين المسنات في الدار قائلةً: رغم انتقاد بعض وسائل الإعلام واعتراضها عن وجود حالات نفسية بين المسنات في الدار، إلا أنني أؤكد عبر (الرياض) بأن هذه الحالات لا تمثل أي خطورة على الصحة النفسية للمقيمات بالدار، فالنزيلات بحالة نفسية مستقرة بفعل الأدوية والعلاج النفسي المستمر، وهناك تفاعل ايجابي بين المسنات من نزيلات الدار، وبين نزيلات القسم النفسي اللواتي تتم معالجتهن في الدار. فهن أحيانا، تعتبرهن المسنات مصدر إسعاد بقدرتهن على الحركة، والتنقل من مكان إلى آخر، والتحدث معهن. وتنظم الدار زيارات مفتوحة لأهالي النزيلات المسنات وأقاربهن بصورة منتظمة، وهناك سجل يرتب للزيارة عبر غرف خارجية، في حال كان الزوار من الرجال، أما النساء فلهن حرية الجلوس مع المقيمة داخل صالات الدار والحدائق الخارجية، وفي هذا الصدد تقول آل الشيخ: مع الوقت أصبحنا نعرف طبيعة وعادات الزوار للمقيمات، أحيانا يأخذون المقيمة في زيارة لنهاية الأسبوع مع كمية الأدوية الخاصة بها خلال هذه المدة، وهناك العديد من المراكز التي نحرص على حضورها وتسعد المقيمات بزيارتها مثل "مركز الأمير سلمان" و"نادي العثيم"... وأحيانا تأتي طالبات من الجامعة والثانوية ينظمن مسابقات ثقافية وألعاب بصحبة المسنات، ويقضين معهن يوما كاملا من المرح، وتقوم الدار بعمل ندوات ومحاضرات لنزيلاتها تناسب اهتماماتهن. رعاية حقوقية وقانونية ولأن مهمة الدار في بعدها الإنساني هي إدماج المسنات في حياة انسانية سوية تشعرهن بالثقة في أنفسهن، وبقدرتهن على مواصلة الحياة، وإعادة الشعور الطبيعي لهن بالعيش المحترم؛ فإن الدار تقوم بمتابعة أحوال المسنات وحقوقهن المدنية ومراجعة المرافق الحكومية، مثل: استخراج بطاقات الهوية الوطنية وحفظ حقوقهن المتصلة بالمرافق والإدارات والوزارات الحكومية. وفي هذا الجانب الخدمي تقول الأستاذة هيفاء: اصدرنا لجميع المقيمات بطاقات أحوال خاصة بهن، وبعض المقيمات يملكن أراضي قمنا باستخراج الصكوك لهن، وبعضهن لها أرث فنجعلها تسجل وصيتها إذا كانت مدركة وتواصل: الآن نحن في طور تنفيذ وصية لإحدى المقيمات توفيت قبل شهرين وليس لها أبناء أو أي ورثة فسجلت في حياتها وصيتها ووكلت أحد الأشخاص الذين تثق بهم أن يبنى لها مسجداً في حال وفاتها وبالفعل قمنا بالتنسيق مع وزارة الشؤون الإسلامية لبناء المسجد، ونحن الآن نشرف عليه مع الوكيل. الجوانب الانسانية وعن الجوانب الإنسانية الأخرى كالزواج تقول آل الشيخ: أقامت الدار عدة أعراس لبعض نزيلاتها طلبن للزواج، فجهزنا لعرسهن وكل مايلزم لتلك المناسبة من فستان الزواج الأبيض وحتى قصور الأفراح، ويتم ذلك عند رغبة بعض الأسر في البحث عن زوجة تناسب رجلا مسنا في العائلة كالأب مثلا - وعادة ما يكون ذلك بعد وفاة زوجته - وحين يتم اختيار إحدى النزيلات نعرض الفكرة عليها فإن قبلت يتم الزواج بعون الله. أما عن طبيعة عمل كادر الدار مثل الاخصائيات الاجتماعيات، والعلاج الطبيعي والنفسيات، وأخصائية الإعاشة فتتوزع مهامهن بصورة متكاملة من أجل تقديم أفضل وضع للمسنات. العلاج الطبعي أخصائية العلاج الطبيعي هدى الصعيب تقول: أغلب المسنات يعانين من حالات ضعف طبيعي بسبب السن، فنقوم بتجهيز أسرة طبية مع تحريكهن في الفراش بطريقة منتظمة، وهناك وقت لجلوسهن على فراشهن المجهز بمرتبة هوائية يتم تحريكها كل ساعتين، وتواصل حديثها قائلة: أما المسنات المدركات والمريضات النفسيات فنقوم بترتيب تمارين رياضية يومية لهن عبر صالة مجهزة بجميع الأجهزة الرياضية، وفي المضمار الخارجي تمارس العديد من الأنشطة الحركية مثل: السير المتحرك والسياكل، وهناك نشاط جديد سوف ندخله للنزيلات عبر تشغيل أشرطة فيديو تحوي التمارين الرياضية في الصالة الكبرى. أما الأخصائية الاجتماعية "ابتسام السديري" فتقول: هناك خمس اخصائيات وكل أخصائية لديها عدد من حالات النزيلات، ودوام الأخصائيات متواصل على فترتين عدا الخميس والجمعة والأعياد نستلم كل حالة على حدة ونضعها في المهجع المناسب لحالتها. ونقوم بمتابعة عمل التحاليل الطبية اللازمة، في المستشفيات المختلفة، ونراجع مستشقيات الصحة النفسية في حال لا حظنا شكوى إحدى النزيلات من حالة نفسية ونعمل التقارير الطبية، ثم نرفع أوراقها للوزارة مرفقة ببحث اجتماعي يشمل أسرتها. ومن ضمن عملنا تنظيم رحلات ميدانية للنزيلات وبرامج ثقافية منوعة مستمرة. النظام الغذائي أما مسئولة الإعاشة والتغذية فمن مهامها: تنظيم طعام النزيلات في جدول أسبوعي مخصص ببعض الحالات التي تحتاج إلى حمية، كالمصابات بالبدانة أو بالكولسترول أو مرضى الضغط والسكر ويتم تحديد كمية الوجبات على عدد النزيلات، وهناك فئة أكلها يكون مهروساً. تقول نجلاء أخصائية التغذية: يتمثل دوري في تحديد النظام الغذائي الخاص بكل مقيمة بالتعاون مع الطبيبة المختصة، وحسب الحالة المرضية، وتقسيم الوجبات الغذائية بناء على ذلك، وإرسال طلبات تحضير الوجبات الغذائية لقسم المطبخ، والإشراف على الوجبات الغذائية أثناء توزيعها، وزيارة المرضى، ومتابعة حالتهم والتأكد من مدى رضاهم عن الوجبات المقدمة لهم وانطلاقاً من قناعتنا بأن الدار هي منزلهم، يعمل القسم جاهدا على إدخال بعض الأطباق الشعبية المتداولة محلياً كالجريش والقرصان والمراصيع في قائمة الطعام اليومية، ولكن بطريقة صحية تتناسب مع وضع المقيمة الصحي كما نراعي في عمل الوجبات تقليل الملح والزيت، أما يوم الخميس فهو يوم مفتوح تطلب فيه النزيلات ما يشتهين من الأطباق الخارجية ضمن ميزانية محددة لكل نزيلة. نزيلات وقصص (عهود) - أديبة وشاعرة - كانت ترافقني طوال جولتي في الدار، وبين الحين والحين كانت تكتب في دفتر معها ثم تقطع الورقة وتعطيني إياها وتحرص على أن أقرأها أمامها، وكانت إما قصيدة أو قصة عن الأم، وعند نهاية الزيارة ووصولي إلى البوابة أهدتني "جراب" لحفظ الجوال من الصوف حاكته بنفسها في غرفة الأشغال الفنية، وطلبت مني أن أعمل معها مقابلة حتى تنشر في الإذاعة طالبة الإذن من المديرة في نشرها، فوافقت الأستاذة هيفاء بنشر كل ما تريد أن تبوح به للناس، ثم قالت: إنني مطلقة وتنقلت طوال حياتي بين الدور، ولدي ابنة واحدة وهذه الابنة لديها طفلان وأنا سعيدة بهما. عهود لها العديد من الملاحظات على السياسة الإدارية للدار وتتمنى زيادة الرحلات الترفيهية . اما فاطمة (مطلقة ثلاثينية) التي كانت تتكلم معي وتخفي وجهها خجلا، تشتكي من طول إقامتها المتواصلة منذ صغرها بين دور الحضانة، ثم دار الفتيات، ثم دارالمسنات. والتي توقف أهلها عن زيارتها، فاستعاضت عن ذلك بقراءة الكتب التاريخية والثقافية المنوعة. الشقيقتان (حصة) و(هيا) اللتان رغم تحسن حالهما عن حال الإهمال التي عاشتاها لعدم وجود من يهتم بهن فإضطرت الدار إلى إسكانهن بالقوة حفاظا على حياتهما، وخوفا من الاعتداء عليهما في المنزل المهجور الذي عاشتا فيه تحت مساعدات بعض أهل الخير رغم السرقات التي تعرضتا لها من بعض المراهقين، ورغم كل ذلك تودان العودة إلى ذلك الحوش الخرب لممارسة حياتهن، حين قالت حصة: كنت سعيدة في حوشنا السابق عندما أذهب يوميا إلى البقالة لشراء ميرندا برتقال وبطاطس، وقد وفرت لهن إدارة الدار الجلسة الشعبية داخل غرفتهن من مراكي ومراتب وجهاز الراديو والتلفزيون، ولكنهن لا يفضلن الاختلاط مع باقي نزيلات الدار. ....لمثل الكثير من حالات نزيلات هذه الدار تظل مثل هذه الخدمات التي تقدمها (دار رعاية المسنات) من أهم المجالات التي تستحق الدعم من المجتمع والدولة فرؤية المجتمع الخاطئة لمثل هذه الحالات هي التي عادة ما تحول دون اندماج هذه الفئات الاجتماعية المستضعفة في نسيج الحياة الطبيعية.