سأحاول اليوم تطبيق "تحليل التكاليف والمنافع" على التسيب الإداري من خلال تجربة شخصية، إذ احتجت مؤخراً إلى مراجعة إحدى الدوائر الحكومية لمتابعة أمر يتطلب حضوري شخصياً، فوجدت أنها قد انتقلت إلى مبنى جديد في موقع جميل، إلا أنه لم يتحقق لها النجاح نفسه في حفز همة موظفيها وتحسين رغبتهم في خدمة المواطنين أو على الأقل تواجدهم في مكاتبهم، أو في تصميم نظام يضمن استكمال "الإجراءات" خلال وقت معقول في حال طرأ طارئ ولم يتمكن أحد الموظفين من الحضور. في اليوم الأول تم استكمال جميع الإجراءات تقريباً، إلا أننا قبل نصف ساعة من نهاية الدوام اكتشفنا خطأ جسيماً في الأوراق يتطلب إعادتها من جديد إلى "المدقق" الذي أخطأ في إدخال في بعض البيانات. وكان من الممكن إنجاز المعاملة في اليوم نفسه لو كان ذلك المدقق على مكتبه ليصحح الخطأ، ولكنه لم يكن، وذكر رئيسه أنه لا يستطيع إصلاح الخطأ غير ذلك الموظف حسب إجراءات الإدارة، وبعد انتظار قليل اتضح أنه لن يعود ذلك اليوم فاتفقت والمراجعين الأخرين على العودة في اليوم التالي الساعة الثامنة صباحاً لاستكمال الإجراءات. وفي اليوم التالي حضرت مع زملاء الأمس من المراجعين الساعة الثامنة وذهبنا مباشرة إلى مكتب "المدقق" الذي انصرف مبكراً اليوم السابق متأكدين أنه سيصل مبكراً اليوم للتعويض عن انصرافه بالأمس، ولكن انتظارنا طال وازداد عدد المراجعين حتى امتلأ بهم مكتبه والصالة المجاورة ثم الدهليز المجاور، وفي الساعة التاسعة والربع جاء المدقق ولم يعتذر أو يبد أي شعور بالأسف أو الحرج من هذا المنظر، مما جعلني أدرك أن تأخره عن الدوام قد يكون أمراً مألوفاً، خاصة أن رئيسه لم يبد استغراباً كبيراً حين بلغه تأخر موظفه عن العمل. وقد قدرت أن المراجعين الذين اضطروا إلى العودة للمراجعة في اليوم الأول بنحو عشرة مراجعين على الأقل، أما في اليوم التالي فلم يقل العدد عن خمسين اضطروا إلى الانتظار خمساً وسبعين دقيقة. وقد شغلت نفسي خلال الانتظار بمحاولة حساب تكلفة ذلك التسيّب، فلو افترضنا أن موظفاً واحداً يتخلف عن دوامه كل يوم مدة ساعة وخمس أربعين دقيقة كل يوم، وأن تكلفة الساعة لكل مراجع تبلغ (100) ريال في المتوسط، فإن التكلفة السنوية لتسيب موظف واحد تتعدى مليوني ريال، ولو أن عشرة من الموظفين في تلك الدائرة يتأخرون كل يوم بمعدل 20% من دوامهم مثل "مدققنا" المشار إليه أعلاه لزادت التكلفة على (20) مليون ريال. ولو كان عدد الدوائر الحكومية التي توجد فيها تلك الظاهرة مائة دائرة، وهو تقدير محافظ على الأرجح، لبلغت قيمة التسيب أكثر من ملياري ريال سنوياً! هل سنقبل بأن تستمر هذه الظاهرة طويلاً لو استخدمنا حساب التكاليف والمنافع في تحليلها والبحث عن حلول معقولة لها لن تكلف عُشر التكلفة التي أشرت إليها؟