يؤكد الباحث على أهمية ومركزية الإجابة على هذه التساؤلات، لكي نفهم المصدر (الحقيقي) لأزمات عالمنا اليوم.. خاصة في خضم (التركيز) العالمي الشديد على الإرهاب والمشاعر المناهضة لأمريكا حول العالم. ؟ تخيل - لبرهة - لو أن عالمنا هذا لم يظهر فيه الإسلام؟.. إنه تمرين ذهني وتاريخي يطرحه علينا استاذ التاريخ (جراهام فولر) ويرى أن فكرة (عالم بدون إسلام) ستكون جذابة لبعض الأوساط في الغرب؛ لأن العالم بدون الإسلام سوف يكون - طبقاً لهؤلاء - بدون صراع حضارات، وبدون حروب مقدسة، وبدون جهاد، وبدون إرهاب، وأن المسيحية الغربية المتسامحة سوف تسيطر على العالم، وان الشرق الأوسط في غياب الإسلام سيكون منارة إشعاع آمنة للديمقراطية، وان عملية (9/11) لم تكن لتحدث! ولكن، طبقاً لأطروحة هذا الباحث@، فإن الحقائق التاريخية تشير الى أن إبعاد الإسلام، من مجرى التاريخ ومسار العالم، لم يكن ليغير من الأمر شيئاً، بل سيبقى العالم كما هو عليه اليوم، مليء بالمشاكل والشرور والفتن والإرهاب والنزاعات والصراعات. إن الباحث بذلك يريد أن (يدحض) نظرية أن الإسلام هو (السبب) الرئيس لمشاكل عالم اليوم، رغم ما يقال ويعتقد وينظر له، بين الأوساط الأكاديمية والسياسية والإعلامية في الغرب، من أن الإسلام هو (أب) كل المشاكل، بدءا من الهجمات الانتحارية، والسيارات المفخخة، والاحتلالات العسكرية، وحركات المقاومة، والانتفاضات، والفتاوى النارية، والآراء التحريضية، وحروب الجهاد المقدس، وحرب العصابات، ورسائل الكراهية الانترنيتية - وانتهاء بأحداث سبتمبر.. اذاً، لماذا تحدث هذه الأشياء؟ ومن المسؤول عنها؟ ولماذا يحمل الإسلام كل هذه المسؤولية؟ يبدأ الباحث في تحليلاته بالإشارة الى أن سبب إقحام الإسلام، كتفسير لأسباب مشاكل العالم، يعود الى أن هذه إجابة جاهزة ومبسطة للأمور المعقدة، ومعيار تحليلي سريع لفهم مشاكل عالمنا اليوم المليء بالاضطرابات، مثل مقولة المحافظين الجدد، ومن تبعهم من الساسة والإعلاميين، بأن (الإسلام الفاشي) هو اليوم العدو اللدود، القادم على العالم ليشعل الحرب العالمية الثالثة. ثم يتساءل: ماذا لو انه لم يوجد شيء اسمه الإسلام؟ وماذا لو لم يوجد النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وماذا لو لم توجد ملحمة تاريخية نشرت الإسلام في الشرق الأوسط وآسيا وافريقيا؟ يؤكد الباحث على أهمية ومركزية الإجابة على هذه التساؤلات، لكي نفهم المصدر (الحقيقي) لأزمات عالمنا اليوم.. خاصة في خضم (التركيز) العالمي الشديد على الإرهاب والمشاعر المناهضة لأمريكا حول العالم. ثم يطرح الباحث سؤاله المركزي: هل الإسلام - فعلاً - هو (مصدر) هذه المشاكل وتلك الأزمات؟ أم أن اسبابها يمكن ان تعزى لعوامل أقل وضوحا، ولكنها أكثر صحة ودقة وعمقا وتأثيرا؟ ويأخذنا الباحث في رحلة افتراضية، في منتهى التشويق، للإجابة على هذا التساؤل، وذلك بأن يتمنى علينا - بداية - أن نطلق العنان لخيالنا بأن نتصور الشرق الأوسط، وكأن الاسلام لم يظهر فيها أبدا، فهل كان العالم سيكون أكثر أمناً ورخاءً واستقرارا؟ وهل كان العالم سيتجنب كل هذه المشاكل التي نعيشها اليوم؟ وهل كنا سنتفادى كل هذه التحديات التي أمامنا؟ وهل سيكون الشرق الأوسط أكثر سلاماً؟ وهل كانت ستختلف طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب؟ وهل بدون الإسلام سوف يظهر النظام العالمي صورة مختلفة ومستقرة عما هو عليه الشرق الأوسط الآن؟ واذا لم يكن الإسلام فمن يا ترى؟ ومع التسليم بأن الإسلام، منذ الأيام الأولى له، قد شكل المعايير الثقافية والتفضيلات السياسية لمعتنقيه في الشرق الأوسط، لكن من السهل أن نفصل - تحليلياً - بين الإسلام وبين مشاكل الشرق الأوسط. ولنبدأ بالتركيبة العرقية، فإنه حتى بدون الإسلام ستظل منطقة الشرق الأوسط مليئة بالصراعات والقلاقل والتعقيد.. فالصراع على السلطة والأرض والنفوذ والتجارة، كان قائماً قبل الإسلام بزمن بعيد.. وسيظل بعده. خذ مثلاً المجموعات العرقية الغالبة والمسيطرة في الشرق الأوسط التي تتكون من: العرب، والفرس، والأتراك، واليهود، والبربر، والبشتون.. هذه المجموعات العرقية - حتى بدون الإسلام - ستظل مسيطرة على المشهد السياسي بصراعاتها واختلافاتها.. لنبدأ بالفرس، فحتى قبل الإسلام حاولت الإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة الوصول إلى أبواب (أثينا)، وكانت في صراع مستمر مع كل من سكن الأناضول، والشعوب السامية المنافسة حاربت - أيضاً - الفرس عبر الهلال الخصيب وحتى العراق. ثم هناك (القوى العربية) القوية، المكونة من القبائل العربية المتنوعة والتجار، التي تتوسع وتمتد وتهاجر الى مختلف المناطق في الشرق الأوسط قبل الإسلام. ثم هناك (المغول) الذين احتلوا وحطموا حضارات آسيا الوسطى، وأغلب حضارات الشرق الأوسط في القرن الثالث عشر الميلادي.. والأتراك - أيضاً - احتلوا وغزوا (الأناضول) من البلقان حتى فينا، وكذلك معظم الشرق الأوسط.. هذه الصراعات على السلطة والنفوذ والأرض والقوة والتجارة وجدت قبل ظهور الإسلام، وستظل معه وبدونه. ومع ذلك، سيكون من الخطأ استبعاد الدين تماماً من المعادلة، فلو أن الإسلام لم يظهر فإن الشرق الأوسط سيظل مسيحياً في معظمه، ومن مختلف الطوائف، مثلما كان الوضع عليه عند ظهور الإسلام، فباستثناء عدد قليل من الزرادشتية، ونفر قليل من اليهود، لم تكن هناك ديانات عظمى قائمة في ذلك الوقت في الشرق الأوسط سوى المسيحية. والسؤال هو: هل سيكون هناك (تناغم) بين الغرب وبين شعوب الشرق الأوسط، لو بقي معظم هذه المنطقة مسيحياً؟ هذا قد يستعصي على التصور، ولكن سوف نفترض - بناء على كونهم مسيحيين - أن الأوروبيين (لن) يفرضوا القوة والسيطرة على جيرانهم في الشرق، للبحث عن موطأ قدم اقتصادي وجيو سياسي.. لكن الذي تكشف في النهاية هو أن الصليبية ماهي إلا مغامرة غربية، مدفوعة باحتياجات سياسية واجتماعية واقتصادية؟ وأن الشعار المسيحي لم يكن سوى راية وقناع للتغطية، ومباركة للاطماع الأوروبية في المنطقة.. بل في الحقيقة، أن (نوع) الدين السائد لم يكن مهماً في قرار الاندفاع الغربي وأطماعه في العالم.. ربما كان الأوروبيون (يتظاهرون) بنشر نهضة أخلاقية، عبر نشر المبادىء والقيم المسيحية بين السكان المحليين، ولكن الهدف (المخفي) هو إنشاء مواقع ومواطئ أقدام استعمارية لهم؛ لتكون مصدراً لإثراء عواصمهم، وقواعد للسيطرة السياسية الغربية، ودعم نفوذها في المنطقة.. ولهذا، فإنه من غير المحتمل أن الشرق الأوسط - حتى لو كان مسيحياً - سوف يرحب بالأساطيل القادمة عليه من أوروبا لنهب خيراته.. فالاستعمار الغربي كان سيزدهر في هذه المنطقة المعقدة، والمشتملة على هذا التجمع العرقي الفسيفسائي، وعبر سياسة قائمة على اللعبة السياسية المعروفة (فرق تسد)، بصرف النظر عن الدين السائد في المنطقة. ثم أنظر في التاريخ الحديث، وفي عصر البترول في الشرق الأوسط، وأسأل نفسك: هل كانت دول الشرق الأوسط، لو كانت شعوبها مسيحية، سترحب بمحميات أوروبية في مناطقهم؟ الجواب قطعاً: لا.. والغرب سيظل يتحكم بشرايين الحياة فيها، مثل ما فعل في قناة السويس..! إذاً، لم يكن الإسلام هو الذي جعل دول الشرق الأوسط تقاوم المشروع الاستعماري، القائم على تقسيم الحدود في دول المنطقة، وبهذه الصورة الجذرية، طبقاً للرغبات الجيوسياسية الأوروبية، ولم يكن الشرق الأوسط - حتى لو كان مسيحياً - أن يقبل ويرحب بشركات الزيت، المدعومة بالوكلاء والدبلوماسيين ورجال المخابرات والجيوش، أكثر من المسلمين، دون ان يكون له نصيب وافر من هذه الخيرات. أنظر للتاريخ الطويل لأمريكا اللاتينية، وردود فعلهم تجاه السيطرة الغربية على مواردهم البترولية واقتصادهم وأنظمتهم السياسية.. والشرق الأوسط سوف يكون (بنفس) القدر من الحماس لتشكيل حركات تحررية ضد الدول الاستعمارية، ومحاولتها الاستحواذ على أراضي شعوبه، وخيراته وأسواقه، وسيادة دوله، ومصائر وأقدار شعوبه، من هذه الغازي الأجنبي. وبنفس القدر ينسحب الأمر - أيضاً - على حركات التحرر لأتباع الديانة الهندية، والكونفوشوسية الصينية، والبوذيين الفيتناميين، والمسيحيين والمؤمنين بالأرواح من الأفارقة! وبالتأكيد أن الفرنسيين سوف يغزون الجزائر - حتى لو كانت مسيحية - وسوف يستولون على أراضيها الزراعية الخصبة، وينشئوا فيها مستعمرة، وكذلك الايطاليون لن يدعوا أثيوبيا المسيحية توقفهم عن تحويل بلادهم إلى مستعمرة تحكم بوحشية قاسية. باختصار، لا يوجد هناك سبب للاعتقاد بأن ردة فعل الشرق الأوسط، تجاه الاستعمار الأوروبي، سوف تكون مختلفة عن الطريقة التي حدثت، حتى لو كانت شعوب الشرق الأوسط من غير المسلمين! @ جراهام فولر: كان نائباً لرئيس (مجلس المخابرات الوطني)، في وكالة الاستخبارات الأمريكية، وهو - الآن - أستاذ للتاريخ، في جامعة سايمون فيريزر، في فانكوفر، وله عدة كتب عن الشرق الأوسط، من ضمنها (مستقبل الاسلام السياسي)، 2003م. @ نشر هذا التحليل في مجلة (السياسة الخارجية) لهذا الشهر، 2008م.