لم يكن لكلمة "اقتصاد" خلال القرون السابقة معنى اصطلاحيا. أما تعبير "الاقتصاد الإسلامي" فقد ظهر بكونه مصطلحا خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وبصفة أعم، قادنا اتصالنا بالغرب، إثر الثورة الصناعية، إلى التعرف على تعبيرات ومصطلحات كثيرة شائعة لدى الغرب، مستعملة في التجارة والمال والثروة والكسب والإنفاق ونحو ذلك، ومن هذه التعبيرات الكلمتان economy التي ترجمت إلى "اقتصاد" أو "الاقتصاد" حسب السياق، وeconomics التي ترجمت إلى "علم الاقتصاد". وكثيرا ما يقال "الاقتصاد"، ويعرف من السياق أن المقصود هو علم الاقتصاد، وأحيانا لا يعرف المقصود. ويلحظ القارئ وضعي الألفاظ الأعجمية (الانجليزية)، مقابل بعض الكلمات العربية. وحقيقة، كنت قبل سنين طويلة ممن ينتقدون هذا النهج، وكنت أراه عملا لا لزوم له، ولكن تبين لي أن هناك حاجة لهذا العمل، ولعل الشرح السابق بيَّن طرفا من هذه الحاجة، وفيما يلي مزيد شرح، وهو شرح لصيق الصلة بموضوع المقالة. لقد أخذنا كثيرا من التصورات والمفاهيم، وفق معناها السائد في الغرب، وحسب دلالتها في لغاته، ووضعنا لها ترجمات، ولكن المشكلة أنه من الصعب وأحيانا المتعذر الوصول إلى لفظ عربي يطابق المعنى المتضمن باللفظة الأعجمية، وأحيانا يحدث الأسوأ، بأن تختار ترجمة تسبب اللبس في الفهم، وسبق أن كتبت عن ذلك مقالة في عدد الاقتصادية ليوم الأحد 20شعبان 1428( 2سبتمبر 2007)، وضربت لذلك مثلا بلفظة احتكار التي وضعت ترجمة للكلمة monopoly. هذا الإشكال يستدعى وضع اللفظ الانجليزي للدلالة على المقصود باللفظة العربية. معنى كلمة اقتصاد شاع استخدام كلمة "اقتصاد"، أو "الاقتصاد" في عصرنا هذا، للتعبير عن عدة معان، غالبها وأكثرها استعمالا، هي نفس معاني الكلمتين الانجليزيتين السابقتين، والمعاني المستقاة من هاتين الكلمتين لا تتفق أو تنطبق بالضرورة مع المعاني اللغوية لكلمة اقتصاد. المعاني اللغوية لغة، اقتصاد مشتقة من قصد. ولها عدة معان، ولكن يهمنا منها ماله صلة بالمال والإنفاق ونحوهما. جاء في لسان العرب (باختصار): القَصءد في الشيء خلافُ الإِفراطِ وهو ما بين الإِسراف والتقتير والقصد في المعيشة أَن لا يُسءرِفَ ولا يُقَتِّر يقال فلان مقتصد في النفقة وقد اقتصد واقتصد فلان في أَمره أَي استقام وقوله ومنهم مُقءتَصِدٌ بين الظالم والسابق كما جاء في المعجم الوسيط (باختصار): قصد في الحكم عدل، وقصد في النفقة لم يسرف ولم يقتر، واقتصد في أمره توسط. المعاني حسب الكلمتين الانجليزيتين أولا: economy جاء في قاموس اكسفورد المشهور Oxford Advanced Learnerصs Dictionary، الطبعة السابعة (2005) التفسيرات التالية - the relationship between production trade and the supply of money in a particular country or region 1.العلاقة بين الإنتاج والتجارة وعرض النقود في دولة أو إقليم محدد 2- a country. when you are thinking about its economic system دولة عندما تفكر بنظامها الاقتصادي 3- the use of the time. money. etc. that is available in a way that avoids waste استعمال الوقت والنقود ...الخ، بطريقة تحسن تتلافى التضييع أي فيها توفير (ومنه سميت الدرجة الاقتصادية، في خطوط الطيران مثلا). واضح أن المعنى الثالث فقط هو ما يتلاءم مع معنى ودلالة الكلمة العربية قصد ومشتقاتها، ورغم هذا التلاؤم، فإن من الصعب جدا، أو بالأحرى لا يمكن القول بأنه يتطابق (أقصد مع المعنى الانجليزي الثالث). هناك تقارب بين المعنيين ولكن لا يمكن القول بوجود تطابق، أو حتى شبه تطابق. وتضيف قواميس أخرى تعبيرات ذات علاقة بالمعنيين الأول والثاني، مثل: Management and use resources إدارة واستعمال الموارد. ثانيا: economics اشتد اعتماد علم الاقتصاد على الرياضيات والإحصاء، وتوسع كثيرا منذ عقد الستينات من القرن الميلادي الماضي، ليشمل قائمة طويلة من الموضوعات. وتبعا لذلك كثرت التعريفات، ولكن ليس فيها ما يمكن أن يقال أنه تعريف جامع مانع. وكتاب بول ساملسون وويليام وردهاوس "الاقتصاد"، ذكر بعضا من التعريفات المهمة، وأذكرها فيما يلي. وهذا الكتاب يعد أشهر كتاب على مستوى العالم في مبادئ الاقتصاد، فقد طبع أكثر من 18طبعة، وبيعت منه ملايين النسخ، وترجم إلى أكثر من 40لغة، منها العربية. @ يدرس كيفية تحديد ثمن العمالة، ورأس المال، والأرض في الاقتصاد، وكيف يتم استخدام هذه الأسعار في توزيع الموارد. @ يستطلع سلوكيات الأسواق المالية، ويحلل كيف تعمل هذه الأسواق. @ يحلل تأثير اللوائح التنظيمية الحكومية على كفاءة السوق. @ يدرس كيفية استخدام السياسات الحكومية لتحقيق أهداف مهمة كالنمو الاقتصادي والتوظيف الكامل لليد العاملة وتثبيت الأسعار وعدالة توزيع الدخل. @ يقترح طرق مساعدة المحتاجين، من دون إلحاق الأذى بأداء الاقتصاد. @ ينظر في تأثير الإنفاق الحكومي، والضرائب والعجز في الميزانية على النمو الاقتصادي. @ يدرس دورات الأعمال التجارية - الارتفاع والهبوط في البطالة والإنتاج والتضخم- ويطور السياسات الحكومية لمحاولة جعلها معتدلة (التقلب). @ يبحث التجارة والمالية الدولية، وتأثيرات العولمة. @ ينظر في النمو (الاقتصادي) في البلدان النامية، ويقترح طرقا لتشجيع استخدام الموارد بكفاءة. ويرى المؤلفان أن كل هذه التعريفات تشترك في مغزى واحد: علم الاقتصاد هو دراسة كيف يمكن للمجتمعات أن تستخدم مواردها المحدودة لإنتاج سلع ذات قيمة، وتوزيعها بين مختلف الناس. (انظر الطبعة الانجليزية الثامنة عشرة، 2005، Mc Graw Hill، نيويورك، والطبعة العربية الأولى، 2001، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن). وتوضيحا لمعنى محدودة أو نادرة scarcity، ذكر المؤلفان أنه ليس بالإمكان إنتاج كميات غير محدودة من كل سلعة، ولن يكون في وسع الجميع الحصول على كل ما يرغبون، فهذا متحقق في مثل رخاء جنة عدن، وفي هذه الحالة لين يكون لعلم الاقتصاد أهمية أو فائدة. ووفقا لهذا الشرح، الذي يتكرر شبيهه في عامة كتب مبادئ الاقتصاد، فإن اختيار كلمة scarcity أراه غير موفق للتعبير عن المقصود. المقصود بعبارة الاقتصاد الإسلامي ظهر تعبير "الاقتصاد الإسلامي" منذ عقود قليلة ماضية. ولم أجد عبارة عليها خلاف واختلاف في فهم المقصود منها مثل عبارة اقتصاد إسلامي. فنحن نقرأ ونسمع مؤلفات وندوات ومحاضرات ومقالات تحمل مسميات أو تحت عناوين اقتصاد إسلامي، والمقصود عادة: 1- توصيف لبناء اقتصادي مخصوص، يمكن أن يعبر عنه بالانجليزية Islamic economy، أي أنه ليس علما محددا، بل بناء اقتصادي تخدمه مجموعة علوم، وهي غالبا الفقه والاقتصاد والمالية، مع مراعاة الشرح المذكور في الفقرة التالية. كما أن هناك قائمة علوم أخرى تخدم البناء، ولكن بدرجة أقل من العلوم السابقة، وتضم القائمة إدارة الأعمال والقانون التجاري والقانون المالي والإدارة العامة والمحاسبة (ربما غفلت عن غيرها). 2- علم الاقتصاد الاسلامي Islamic economics، الذي هو عبارة عن علم الاقتصاد economics (وربما يضم معه علم المالية أيضا)، الذي يدرس الآن في عامة جامعات العالم، مع إدخال تعديلات، وإضافة أبعاد أخرى في تدريس العلم، لاعتبارات يرى (بضم الياء أي بالبناء للمجهول) أنها لازمة لجعل العلم مناسبا للمجتمع الملتزم بتطبيق الشريعة. وتتفاوت مؤلفات الاقتصاد الإسلامي المؤلفة في نطاق هذا المعنى في نظرتها إلى علم الاقتصاد، وقدر الاستفادة منه، وتبعا لذلك تتفاوت في نظرتها إلى العلاقة بالفقه. ويسمي بعض المؤلفين في الاقتصاد الإسلامي علم الاقتصاد بعلم الاقتصاد الوضعي، وهي تسمية لا أراها موفقة. ومن جهة أخرى، يلاحظ بوضوح: 1- ضحالة المستوى الاقتصادي الفني في غالبية كتب الاقتصاد الإسلامي المؤلفة وفق هذا المعنى الثاني. 2- كثرة إيراد المسائل الفقهية. وبسبب هذين، يمكن ضم كثير مما أُلف في علم الاقتصاد الاسلامي إلى مباحث وكتب الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي. ولعل الله أن ييسر مستقبلا التعرض لهذه الأمور بتفصيل أكثر. 3- فرع من فروع الفقه، أو فقه مخصوص استقل بنفسه، وهو فقه المعاملات المالية والاقتصادية، وعلى هذا لا يصلح استخدام التعبيرات الانجليزية التالية: economics أو Islamic economics أو Islamic economy للدلالة على هذا الفقه المخصوص. بل ينبغي استخدام تعبير من قبيل Islamic laws of economic and financial matters . أسباب تسمية الثالث بالاقتصاد الإسلامي والاعتراض على هذه التسمية أرى أن من أسباب تسمية كثير من المؤلفات والكتابات المندرجة تحت المعنى الأخير بمسمى الاقتصاد الإسلامي ضعف اهتمام الكتب الفقهية العامة المؤلفة في القرون السابقة (كالمغني) بهذا اللون من الفقه. وفي هذا أذكر إبان دراستي في كلية الشريعة في الرياض قبل سنين طويلة، أذكر أن فقه البيع (وما يلحق به من معاملات مالية واقتصادية) كان يدرس في السنة الثانية، وكان المنهج ينص على أنه ينبغي على أستاذ المادة أن يتعرض إلى أحكام القضايا المستجدة في عالم التجارة والمال، ولكن هذا لم يحدث، فقد قصر الأستاذ تدريسه على الموضوعات الواردة في كتاب الروض المربع. كما أنه لم يتعرض إلى أحكام موضوعات اقتصادية تناولتها كتب قديمة، ولكنها لم تدرج في كتب الفقه العامة، كالمغني والروض المربع. تسمية مباحث الفقه الاقتصادي والمالي بالاقتصاد الإسلامي عليها اعتراض: 1- تعريف الفقه يدل على الشمول، وليس مخصصا بنوع محدد من التصرفات العملية. وغالب ما كتبت قديما في أحكام موضوعات اقتصادية من أمثال أحكام وآداب الكسب والإنفاق وأحكام المالية العامة والتصرف بالمال العام والخراج وأحكام السوق هي في الحقيقة فقه، رغم إهمالها أو قلة بحثها في كتب الفقه الشاملة كالمغني، وكان المفترض أن تتضمن هذه الكتب تلك الموضوعات. 2- التباس الأمر على الناس، بين علم الاقتصاد (بالمعنى الثاني)، وفقه المعاملات الاقتصادية والمالية، وهذا يخالف الهدف من وجود المصطلحات. طالما أن عندنا فقهاً، فلماذا الازدواجية في التسمية؟ لماذا نضيف تسمية أخرى لفقه المعاملات الاقتصادية والمالية، بما يسبب لبسا وإشكالا. ولذا أرى ترك تسمية مباحث الفقه الاقتصادي والمالي بالاقتصاد الإسلامي، وينبغي على الهيئات العلمية، ومنها الهيئة العالمية أن تنبه على ترك هذه التسمية. عبارة "لا مشاحة في الاصطلاح" ليست على إطلاقها قد يرد علي بأنه لا مشاحة في الاصطلاح. ولكني أرى أن هذه العبارة ليست على إطلاقها، أو لنقل أنها ليست مقبولة في كل الحالات. فحيث انتشر استعمال مصطلح ليقصد به معنى محددا، واستقر في الأذهان هذا الاستعمال، فإن صرفه إلى غير هذا المعنى المحدد يسبب لبسا وتشويشا في الأذهان. مثلا، لا يستساغ أن يطلق أحدهم عبارة تفسير على كتاب يشرح الحديث، لأنه استقر في الأذهان أن كلمة تفسير تطلق على تفسير كتاب الله، وليس الحديث النبوي. أمثلة لمؤلفات حسب المعنى الثالث من أوضح المؤلفات التي تندرج تحت الثالث كتاب الدكتور علي محي الدين القره داغي بعنوان "بحوث في الاقتصاد الإسلامي" (2006)، دار البشائر الإسلامية. الكتاب فقهي، يبحث بشي من التفصيل في حكم التورق، والحلول والمخارج الفقهية لمعالجة الالتزامات في حالات التضخم (سماها علاج التضخم، وهي تسمية لها معنى مختلف كليا في علم الاقتصاد)، وفي جملة أحكام للأسواق المالية والأسهم ونحوها. وقد حوى غلاف الكتاب تعريفا بالمؤلف: "أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون، جامعة قطر، وخبير الفقه والاقتصاد الإسلامي بمجمع الفقه الإسلامي" المؤلف فقيه، ولم يجمع إلى الفقه التخصص في علم الاقتصاد، أو الاقتصاد الإسلامي بالمعنى التقني الرابع، ولذا كان الأجدر أن يقال "خبير الفقه، والفقه المالي والاقتصادي"، وهذا من باب عطف الخاص على العام. ومن المؤلفات أيضا كتاب الدكتور عبد الله الطريقي، الأستاذ بقسم الدراسات الإسلامية في كلية المعلمين في الرياض "الاقتصاد الإسلامي أسس ومبادئ وأهداف" ( 1426الموافق 2005). الكتاب في مجمله فقهي، بمسميات كثير منها حديث، فهو يركز على التعرض للأحكام الشرعية للملكية والإنتاج (كالمزارعة والاحتكار) ووظائف الدولة الاقتصادية والإنفاق، وجملة من المعاملات التجارية والمالية. وقد جاء تعريف الاقتصاد الإسلامي في الكتاب تعريفا فقهيا: "العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية فيما ينظم كسب المال وإنفاقه وأوجه تنميته". منهج العرض في الكتاب يجعل بالإمكان اعتباره من كتب الثقافة الإسلامية. بحث الأحكام الشرعية للمسائل الاقتصادية خارج نطاق علم الاقتصاد، مثلما نقول إن بحث أحكام الحمل والولادة والحيض ونقل الدم والتبرع بالأعضاء وصفة صلاة المريض، وغيرها كثير، خارج نطاق دراسة الطب. ولا يصلح أن نسمي بحث هذه الأحكام بالطب الإسلامي. أخيرا، يرحب الكاتب بالتعليقات الموضوعية، وبالله التوفيق، ، ، @ بكالوريوس في الشريعة، دكتوراه في الاقتصاد، متخصص في الاقتصاد الكلي والمالية العامة