الطرب أغنية، أغنية عميقة غنيت لتكون امتدادا حقيقيا لعمق الإنسان ووجوده. والمغني إذ يغني نسخة قلبه إنما يقوم بمحاكاة فريدة لكينونة الإنسانية. فالطرب والغناء الأصيل ليس حكرا على جيل أو موهبة واحدة. إنه يقيم إزاء الناس مشاعر تناسبهم وتضيء في صدورهم ولو كانت معتمة. ذات يوم كانت فيروز مجرد تلميذة بصوت جميل حين جاء الرحابنة. لعل فيروز عندما أكملت بصوتها تمام لوحتهم أدت الغرض الذي من أجله صنعوا أغنياتهم. لذلك ليس في المقدور النظر إلى التجربة الرحبانية وإغفال فيروز كما ما من أحد يستطيع التحدث عن فيروز بدون التحدث عن الألحان التي ساعدت العالم ليستدل على صوتها ونغمتها الفريدة. بمحصلة تفكيك هذه الحقيقة تصبح الأسطورة الفيروزية مجموعة من مفاتن متصل بعضها ببعض وكلها تنساب وتدوم معاً. فاللحن الذي يتلي بذوقه الرفيع والإحساس الذي يغدق على الحنجرة من وحيه والكلمات التي لا تموت والصوت الناقل لكل هذا بتعاطف وتضامن جم، كلها أجزاء من عملية واحدة. هذه العملية الأسطورية متواصلة بسبب هذه المفاتن. وبالنتيجة يصبح النظر إلى إمكانية توليد هذه الأسطورة وبعثها ممكنا. خصوصاً بالتمعن في أصوات كثيرة يمكننا أن نضع أمالنا الكبيرة عليها. أصوات جميلة تنساب بيننا قد تتحول إلى أغنيات جميلة، ثم إلى أصوات خالدة . أصوات مازالت تدور في فلك إعادة القديم والمتوارث. ذلك لأنه يمثل قيمة ثقافية توازي قيمة هذه الأصوات العظيمة. بالإضافة إلى أن هذا القديم اكتسب حياته من مستوى إبداعي غير عادي ولا يضاهى يأتي موازيا لجمال هذه الأصوات الجديدة مساعداً لها على بعث المخبوء في طياتها. لذلك ما لم تتدارك هذه الأصوات ألحان بمستواها تروح تشتغل على خامتها الخاصة لن تخرج ذاتية هذه الأصوات وستبقى تائهة في القديم الذي يوازيها. غادة شبير مرشحة مثالية لحالة الأسطورة تلك ليس فقط لكونها واثقة ومتمكنة ومتميزة في آدائها بحيث أعادت الموشحات الأندلسية بصيغتها الأساسية القديمة دون المساس بهيكلية اللحن واضعة التجديد،كل التجديد في كفة الآداء والتعبيرات الحسية الخاصة. وأيضا ليس فقط لأنها كانت من الجرأة أن رفضت اعتماد الأوركسترا السمفونية مع الموشح . وليس فقط لكونها حائزة على إجازة في العلوم الموسيقية، وعلى دبلوم في الغناء الشرقي وماجستير في العلوم الموسيقية، ودبلوم الدراسات المعمقة في العلوم الموسيقية،وتحضر الآن لدكتوراه في العلوم الموسيقية. وليس فقط لأن إنتاجها يتعدى السطحية بمسافة عدة اسطوانات وكتابين هما: الموشح بعد مؤتمر القاهرة 1932وهو سلسلة دراسات عن الموشح، وسيد درويش،الموشح والدور وهو يتناول تنويطات لكل موشحات وأدوار السيد درويش،. وليس فقط لأجل أكاديميتها المتطورة والمنتجة وطربيتها الصرفة بل لأجل كل هذا بزيادة رقة صوتها ووصوله الحقيقي إلى الناس في قالب حيوي مؤثر. لينا شماميان مرشحة مثالية أيضا لنيل حالة أسطورية مشابهة صوت رقراق ذو وقع يستحيل نسيانه أو تجاهله، آمال ماهر، مكادي نحاس، سحر طه.كلها أسماء سأعرج عليها لاحقا في هذه الزاوية. إنها أسماء تستحق الوصول إلى هذه الحالة الأسطورية المتكاملة والمستمرة لولا أنها أصوات استطاعت بعث كنوز القديم بروح جديدة متنحية بذلك عن مسؤولية خلق الجديد .ليس في هذا خطأ فالتنقيب في كنوز القديم حالة فريدة بحد ذاتها لكننا نتمنى ألحانا جديدة تعكس النغمة الفريدة التي تحملها مواهبهن غير المسبوقة. بدون هذه الألحان سيفقد الغناء قدرته على التعبير عن استمراريته. مع هذه الأصوات التي لم نعدم تميزها والفقر في الملحنين الحقيقيين ليس لنا إلا القول: ألا ليت الألحان تعود يوما.!