تطرق إلى مسامعنا من وسائل الاعلام الغربية وجوب توجه دول العالم النامي الى المجتمع المدني فالحس المدني من المصطلحات التي شاعت في عصرنا وأصبحت لها حضور قوي في تقرير مصير القضايا التي تطرح على بساط البحث، والنقاش في المجتمع من خلال فئات أو هيئات تمثل هذا التوجه. والحس المدني هو التنظيمات، والهيئات المستقلة نسبياً عن سلطة الدولة لتحقيق أغراض متعددة تخدم الفرد والمجتمع ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح. إلا أن الإيهام الظاهر في العنوان والناشئ من جراء الجمع بين مصطلح حادث الذي هو "الحس المدني" وبين "الإسلام" الرسالة الخاتمة سيزول بمجرد الوقوف على مدلول الحس المدني والعلاقة بين الحس المدني والمجتمع المدني، ومع ما قرر الإسلام من مثل، وقيم، وأبعاد اجتماعية، وانسانية في أحكامه وتشريعاته، يقول الشيخ محمد الطاهر عاشور في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الاسلام" و"من الفطرة الانسانية انفعالاً للنفس برقة ورحمة عند مشاهدة الضعف والحاجة لاستشعار تألم المحتاج، ثم اندفاع بذلك الانفعال إلى السعي لتخليصه من آلام تلك الحاجة، لا يتخلف هذا الإحساس إلا نادراً". ولما كان سلوك الانسان وما يرتبط به مع غيره بوشائج الدم، والقرابة أو الجوار، أو الشراكة، أو العمل وفي علاقاته داخل الدائرة الجماعية من أضيقها إلى أوسعها هو محور التشريعات المختلفة التي جاء بها الإسلام، يبرز بجلاء البعد الاجتماعي في ذلك وهو الذي يقوم على أساس الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين، وتجاه الوسط الذي يتقلب فيه، وهذا الجانب الذي اصطلح على تسميته "بالحس المدني" وهذا الموضوع يكتسي أهمية كبيرة إذ يعتبر أحد مظاهر المجتمع السليم، وبخاصة اذا كان منطلقه وقراءته من خلال تعاليم الوحي الذي يتسم بوضوح الرؤية، وشمول المعالجة، بحيث يجعل من الحس المدني ذات قيمة حضارية راقية تتناسب وتكريم الجنس البشري، فالإسلام هو الذي جعل الشعور، والحس بالآخرين، والاهتمام بهم من أولويات مبادئه الخالدة، وشعائره الثابتة. فلننظر إلى عظمة هذا الدين كيف ينمي الإحساس بالآخرين من خلال هذا البيان العجيب من كتاب الله الذي ينفي الخيرية عن أي قول لا يصحبه عمل إيجابي ينفع الأفراد في المجتمع. فقد أدرك الغرب أن سلامة المجتمع واستمراره إنما يتحقق بقيام كل فرد من افراده بواجبه، نحو أبناء جنسه، ونحو مجتمعه، الذي يعيش فيه، حيث يتصرف كل فرد من أفراده باعتباره عنصراً في مجموعة لا بد من احترام كل أفرادها، وحينما تفلس الحضارة من القيم، والمثل تهدر كرامة الإنسان التي قال الله فيها (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزوقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفصيلا) سورة الإسراء (الآية: 70). ولا مناص للإنسان من الاجتماع مع غيره من بني جنسه، لأن الحياة الجماعية سنة من سنن الكون، وضرورة بشرية ذلك أن الإنسان لا يستطيع ان يعيش في هذا الكون، وأن يكون سيداً فيه دون أن يتعاون مع الآخرين، فالإنسان بطبعه يميل إلى التعارف، والتعايش مع غيره. فالإسلام نظام شامل ومتكامل ترتبط فيه العبادة والعقائد بممارسة الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، والتربية، وإن الأخلاق والأداب عامل جامع بين هذه القيم. إذاً فالحس المدني في الإسلام نابع من رسالته الاجتماعية، والإنسانية التي تتمتع فيه مصلحة المجتمع الكلية بأهمية رئيسية، أو بما يسمى بالمصلحة العامة. ومن هذا النبع الإسلامي الاجتماعي نبعث العبادات في الإسلام في مظهرها وأبعادها، فالعبادات تمتاز بأنها ذات طابع اجتماعي، وإنساني شامل، وعميق عمق الإيمان بالله الذي هو روح العبادات. فالعبادات الإسلامية بطابعها الاجتماعي وشمولها الإنساني وعمقها الشعبي الإحساسي لا تحتاج من البيان أكثر مما تخبرنا به أركان الإسلام الخمسة. فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة هو الركن الأول والأهم وهو يدعو إلى تساوي الناس أمام الله وإلى وحدة المؤمنين في الله تساو ووحدة من مظاهرهما، الصلاة في نظامها، والجمعة، والجماعة، واتجاهها إلى الكعبة المشرفة، بالإضافة إلى الصيام وآدابه، والزكاة ومصارفها، والحج ومناسكه، فكل العبادات المفروضة والمندوبة تتجلى في مظهر اجتماعي وهدف إنساني، فالإسلام في عقيدته وشريعته ينهى عن الإنعزالية والرهبانية بل أوامره ونواهيه جاءت في سياق اجتماعي مثل الحث على التعاون والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بل ويلعن من لا يتناهون عن منكر فعلوه في مجتمعهم، ويلعن الويل على المصلين الذين لا يهتمون بمجتمعهم ويمنعون الماعون. إن عظمة العبادات وقداستها في الإسلام بما تخلفه من آثار في المجتمع كما جاء في القرآن الكريم في الآيات السابقة، فعلى كل فرد في المجتمعات الإسلامية أن يعي رسالته في الحس المدني الإسلامي قبل أن تضيع منه الفرصة. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.