(المجتمع) كلمة جامعة تعني القطاع العام والخاص.. الدولة والناس.. الأفراد والأسر وكافة من يوجد تحت نظام دولة واحدة.. بما في ذلك الدولة نفسها.. والمجتمع بهذا الشكل الكبير له أنظمته.. وقوانينه.. تراثه وموروثه .. أعرافه وتقاليده.. أخلاقه وطابعه العام.. ويمكن قياس رقي المجتمع.. من عدمه.. بنوعية تعامله مع ضعفائه.. ضعفاء المجتمع، وفي مقدمتهم (الفقراء) و(ذوو الحاجات الخاصة) والأطفال.. وربما النساء أيضاً في كثير من الأحيان.. حين يغلب على النساء، في مجتمع ما، الضعف أو الاستضعاف، فالمرأة ليست ضعيفة بطبعها ولكنها (مستضعفة) في كثير من المجتمعات، بسبب تراكمات اجتماعية هائلة، تغلَّب فيها الرجال على مدى السنين وفرضوا على المرأة الضعف بسبل شتى.. ويختلف ضعف المرأة.. أو استضعافها على الأصح.. من مجتمع إلى آخر.. حسب تراكماته ومداها ونوعها، كماً وكيفاً، ولكن كلما اشتد استضعاف المرأة في مجتمع ما، فإن هذا لا يبشر بخير، ولا يدل على رقي، بل العكس هو الصحيح.. @@@ إن الأخلاق الحقيقية للمجتمع - كما هو حال الفرد - تبين في معاملته للضعفاء بشكل عام.. فالإنسان لا تظهر أخلاقه كما هي حين يتعامل مع من هو أقوى منه، أو مع القوي عموماً، لأنه هنا يتصنع.. يتكلف.. يتخلق بما ليس فيه إلى حين.. وكل امرئ راجع إلى طبعه الحقيقي.. وهو المدار الأخلاقي والإنساني.. ولا يتجلى هذا الطبع العميق، أو الأخلاق الحقيقية - حسنة كانت أم سيئة - إلا حين يتعامل الإنسان مع من هو أضعف منه.. مع من يقدر عليه .. هنا يظهر جوهره الحقيقي.. ويبين طبعه الأصيل.. بعيداً عن التكلف والتصنع.. @@@ والمجتمع - بما فيه من دولة وأنظمة ومؤسسات ومفكرين - مطالب أكثر من الفرد بإنصاف الضعفاء.. وإعطائهم حقوقهم كاملة.. غير منقوصة.. وبلا مَنّ ولا فضل.. فللضعفاء حقوق دينية وإنسانية وأخلاقية ينبغي على كل مجتمع راق أن يعطيهم إياها بدون منة، وبدون إرهاق لهم لينالوا تلك الحقوق أو بعضها، وبدون إذلال بطبيعة الحال.. (الموازين الاجتماعية) إن الموازين الاجتماعية تميل إلى الاختلال دائماً، بسبب غلبة الأقوياء على الضعفاء، من ناحية، وبسبب سيادة القيم المادية على مفاهيم الناس، إلا ما ندر، فيزنون الأفراد والناس بأموالهم ومناصبهم، وليس بأخلاقهم في الغالب، وخاصة حين يجد الجد.. بل إن الموازين الاجتماعية كثيراً ما يصيبها خَلَلٌ خطير ضدَّ الأخلاق الفاضلة نفسها، فيُقَدَّم المنافق على المخلص، والثري اللص على المستور الذي كسبه حلال وعمله نافع للمجتمع، بينما ذلك الثري اللص الذي يسرق من المال العام أو من جيوب الناس بالغش أو التدليس أو الاحتكار، ويضر المجتمع، يجد من التقدير الاجتماعي والتمجيد ما لا يجده ذلك المخلص الخلوق العامل بشرف والمجد والنافع للمجتمع وللناس. وهذا داء في الناس من قديم.. ويترتب عليه بشكل شبه تلقائي ازدراء الضعفاء، واضطهادهم، وغمطهم حقوقهم، بل وإذلالهم أحياناً.. وقد روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أنه قال: "مَرَّ رجلٌ على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس: - ما رأيك في هذا؟ قال: - رجلٌ من أشراف الناس: هذا والله حريٌّ إنء خَطَب أنء يُنءكَح (أي يُزَوَّج فوراً) وإن شَفَع أن يُشَفَّع (أي أنه واسطة كبيرة).. فسكت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.. ثم مَرَّ رجلٌ فقال رسول الله: - ما رأيُكَ في هذا؟ فقال: - يا رسول الله، هذا رجلٌ من فقراء المسلمين: هذا حريٌّ إن خَطَب أن لا يُنكح (أي لا يُزَوَّج) وإن شفع أن لا يُشَفَّع، وإن قال أن لا يُسءمَعَ لقوله.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: - "هذا خيرٌ مِن ملء الأرض مثل هذا". الحديث رواه البخاري ومسلم كما أسلفنا فهو حديث صحيح، ويدل على أن الموازين الاجتماعية مختلة دائماً حتى في أفضل العصور، ولا يظهر فيها العدل إلا الأنبياء ثم المصلحون الاجتماعيون الذين يجاهدون كثيراً لإصلاح الخلل في تلك الموازين.. @@@ إن الأغبياء الذين يذلون الضعفاء ويحتقرونهم، ثم يذلون هم أمام الأغنياء والأقوياء ويخدمونهم بدون مقابل.. لا حصر لهم.. وقد قرر أبو الطيب المتنبي أن يسعى للثروة حين رأى تصرف أحد هؤلاء الأغبياء.. فقد ذهب إلى السوق وهو شاب فرأى بائع بطيخ فسأله يا رجل (كوم) البطيخ كم سعره؟ فقال البائع: عشرة دراهم.. فطلبها منه بثمانية دراهم فرفض وردَّ عليه رداً قبيحاً.. وهنا أقبل رجل ثري على فرس له مطَهَّم ومعه عبدان تلمع بشرتهما لمع الدنانير، فأشار للبائع بكل استكبار دون أن يترجل عن حصانه بل أشار باصبعه لكوم البطيخ من بعيد ومن فوق: - بكم هذا يا ولد؟! فقال البائع بخنوع: - بخمسة دراهم يا سيدي! فأشار الثري إلى أحد العبدين فأعطى البائع خمسة دراهم ثم نظر للبائع بصلف وقال: - احملها لقصري! فقال البائع بخضوع: - أمرك يا سيدي!! ثم أطلق الثري العنان لفرسه فثار الغبار على البائع والمتنبي والعبدان يلهثان في ركابه ويزيدان في ثورة الغبار.. هنا سأل المتنبي البائع بتعجب وغضب: - لماذا أطلب منك البطيخ بثمانية دراهم وأنا الذي أحمله، فترفض وترد رداً قبيحاً، ثم تبيعه على هذا بخمسة دراهم وتحمله أنت أيضاً؟ فرد البائع وكأن الأمر محسوم: - يا غبي، هذا فلان بن فلان يملك كذا وكذا..!! فقال المتنبي: - وإذا كان يملك كذا وكذا؟ فلم يعرف البائع كيف يرد على هذا الغباء المستحكم ولكن المتنبي عرف أنه يجب عليه إحراز الثروة ما دامت قلوب البشر تخدم أصحابها وتمتلئ لهم إجلالاً ولو لم يستفيدوا منهم أي شيء، ولو كانوا هم الغارمين!! @@@ والمجتمع العربي منذ الجاهلية وحتى اليوم مع الأسف، كثير من أفراده يضطهد الضعفاء ويركع أمام القوة، رغم أن الإسلام الحنيف سما به فترة من الزمن، ولكنه يعود أو يكاد يعود لجذوره الصحراوية والقبلية: يا قاتل يا مقتول.. والأدب العربي كثيراً ما يمجد الظلم حتى المتنبي الذي ذاق المرارة من اختلال الموازين الاجتماعية صار في ذروة من يدعون - ببلاغة نادرة - لسحق الضعفاء.. وبعيداً عن الفن فإن ذلك أبعد ما يكون عن تعاليم الدين وأبسط مبادئ الأخلاق، إن الله عزَّ وجل يقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) بينما يقول الشاعر العربي: فمن يكن عن كرام الناس يسألني فأكرمُ الناس من كانت له وَرِقُ! ولم يقل: من كان له خلق! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الضعيف أمير الركب" ويقول: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". ويقول: "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم". ويحض على كفالة الأيتام وإكرامهم، وعلى مساعدة الفقراء والمحتاجين بلا مَنّ ولا أذى، هذا غير الزكاة المفروضة التي هي حق فرضه الله للفقراء من أموال الأغنياء.. @@@ إن الأنظمة التي تصدرها الدولة تستطيع حفظ حقوق الضعفاء وذوي الحاجات الخاصة بقوة النظام إذا نُفّذ النظام، ثم يعتاد الناس على احترام ذلك تلقائياً حتى يصبح لهم خُلقاً كريماً وعادة راقية.. كما أن الضمان الاجتماعي إذا عمم على المحتاجين، وكان فيه الكفاية من العوز، يساعد على انصاف الفقراء، وعلى إراحة ضمير المجتمع نسبياً، مع تضافر جهود العمد وأئمة المساجد ومن يعرفون العوائل الفقيرة حق المعرفة، تضافر تلك الجهود لتسجيل الفقراء في الضمان الاجتماعي، وتسهيل أمورهم.. إن الفقر بلاء.. ليس للفقير وحده بل للمجتمع كله.. إنه يكشف معدن المجتمع.. فالمجتمع الراقي الأصيل يقف مع الفقير ويستره محافظاً على كرامته، وينصف الضعيف من القوي، ويأخذ له حقه بسرعة وسهولة.. ولا بد أن تتضافر كل الجهود الإعلامية ومن كل المنابر لإنصاف الضعفاء والفقراء فهذا حق لهم.