لا يخلو مجتمعٌ من المجتمعات من النزعة القبلية والشفاعات غير المرضية التي بموجبها تنتهك الأنظمة العامة وتخترق المبادئ والقوانين المنظمة لحياة البشر وما يصلحهم في معاشهم ومعادهم . والقبيلة بوصفها ظاهرة من الظواهر، تتجاوز ميدان وظيفتها، وتخيم بظلالها على مناحي الحياة، ويجعل تأثيرها في بنية الوعي أمراً لا بد منه، فهي ذات حضور سلبي في الحياة المدنية الراقية . وفي مجتمعنا المعاصر كان حضور القبيلة والضرب على وتر القرابة والصداقة أمراً ملموساً نشاهد ماهيته في خرق الأنظمة المعمول بها مراعاة لخاطر الصديق والقريب . بل إن الأمر تطور إلى أكثر من ذلك ؛ فقد أصبح البعض منا اليوم قبل أن يهمّ بمراجعة دائرة من الدوائر -حكومية كانت أم أهلية - ولو كانت مراجعته لتحصيل أمر عادي أو لطلب حق مشروع لا إشكال فيه كتجديد رخصة القيادة، أو استخراج إقامة نظامية لمكفوله، أو طلب تعريف لكونه من سكان هذا الحي، أو طلب فسح لبناء منزلٍ له ؛ إلا ويسأل ويستفسر : هل يوجد لنا قريبٌ أو صديقٌ يعمل في تلك الدائرة ؟؟ . إن تفشي مثل هذه الظواهر السلبية في مجتمعنا اليوم لهو نذير شؤم وبلاء، ذلك أن أفراد المجتمع يفترض أن يتساووا جميعاً في الاستفادة من الخدمات العامة التي تقدمها الدولة لهم، حيث كفلتها لهم بموجب النظام الذي يجب أن تكون مفرداته واضحة للجميع بعيدة عن السرية المقيتة التي لا زال بعض موظفونا العامون يرفعون شعارها عند أدنى سؤالٍ من المواطن عن الإجراءات النظامية المرتبة لهذا العمل الذي يراجعونهم فيه، وذلك بأن يطلع الأفراد على الأنظمة واللوائح التي تبين لهم ما لهم من حقوق، وما عليهم من واجبات فلا يلجأون لمثل هذه التصرفات المتخلفة التي تقوم على العصبية القبلية التي تعد مرحلة سفلى في سلم الرقي الإنساني، ودرجة منحطة من درجات الإنسان البدائية . ولهذا فلقد حرص نظام مكافحة الرشوة في المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ 36وتاريخ 1412/12/29ه على تجريم تلك الأفعال التي يرتكبها الموظف العام ويخل بها بواجبات وظيفته نتيجة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة، بل إن النظام جعل هذا الموظف في حكم المرتشي على الرغم من اختلافها عن الرشوة الحقيقية في انعدام الفائدة التي يحصل عليها الموظف العام لقاء قيامه بالعمل أو الامتناع منه بسبب الرجاء أو التوصية أو الوساطة . وما ذاك إلا لأن تلك الأفعال تمس نزاهة الموظف، وتخل بالثقة المفترضة من المواطن في الوظيفة العامة، وبانتشارها تضيع الحقوق، وتنتشر الفوضى، وتضعف الهمم، وتتحطم الآمال، وتسند الأمور إلى غير أهلها، وتتشوه العلاقة بين الدولة والمواطن .حيث نص نظام مكافحة الرشوة في المادة الرابعة على أن (كل موظف عام أخل بواجبات وظيفته ؛ بأن قام بعمل أو امتنع عن عمل من أعمال تلك الوظيفة، نتيجة لرجاء، أو توصية، أو وساطة ؛ يعد في حكم المرتشي، ويعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، وبغرامة لا تزيد على مائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين ) . ففي هذه الحالة لم توجد الصورة الأساسية لجريمة الرشوة حيث لم يكن هناك أخذ عطية أو فائدة، ولم يقبل الموظف أو يطلب شيئاً من ذلك، بل فعل ذلك الإخلال، استجابة لرجاء أو توصية أو وساطة من الغير، وبدون مقابل أو منفعة نظير ذلك. ومع ذلك فلقد جرمه النظام، واعتبر ذلك الفعل في حكم الرشوة، وعاقب على ذلك بعقوبة السجن أو الغرامة، أو بإحدى هاتين العقوبتين ؛ حرصاً على نزاهة الوظيفة العامة، ومنعاً من الإخلال بقاعدة المساواة بين المستفيدين من المرافق العامة. ولإيقاع هذه العقوبة فإنه لابد أن يترتب على قيام الموظف بهذا العمل أو امتناعه عنه إخلالاً بواجباته الوظيفية ؛ استجابة لرجاء أو توصية أو وساطة، فالإفراج عن السجين بعد انتهاء فترة التحقيق وعدم ثبوت الأدلة لا يعد جرماً ولو كان استجابة لرجاء أو وساطة، كما أن إخلال الموظف بواجبات وظيفته بدون الرجاء والوساطة أمر يستوجب المساءلة التأديبية فقط ما دام فعله لا ينطبق مع أحد نصوص التجريم العقابية. كما يجب لإيقاع هذه العقوبة أن يثبت القصد الجنائي العام لدى الموظف، حيث يعلم أن إخلاله بواجبات وظيفته إما بإتيان عمل، أو امتناع عن عمل في حدود اختصاصه كان بسبب الرجاء أو التوصية أو الوساطة . وإذا ثبتت هذه الجريمة وأدين الموظف العام بارتكابها وعوقب بالعقوبة الأصلية ( السجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات، وبغرامة لا تزيد على مائة ألف ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين ) فإنه لا يُكتفى بذلك فقط، بل يترتب عليه العزل من الوظيفة العامة، وحرمان ذلك الموظف المُدان من تولي الوظائف العامة، وذلك كعقوبة تبعية تُفرض بقوة النظام من غير حاجة إلى أن ينص القاضي عليها في الحكم الصادر بالإدانة، بل وحتى لو صدر عفوٌ عن العقوبة الأصلية فإن ذلك العفو لا يسري على العقوبة التبعية إلا إذا نُص على ذلك صراحة في قرار العفو . ولم يقتصر نظام مكافحة الرشوة على ذلك، بل قام بتشجيع جميع أفراد المجتمع إلى وأد هذه الجريمة قبل ارتكابها حين شجع جميع أفراد المجتمع إلى الإرشاد إلى مثل هذه الجرائم التي تفتك بمبدأ المساواة أمام مرافق الدولة العامة، حيث نص في المادة السابعة عشرة من النظام على أن (كل من أرشد إلى جريمة من الجرائم المنصوص عليها في النظام - ومنها جريمة الاستجابة للرجاء أو التوصية أو الوساطة - وأدت معلوماته إلى ثبوت الجريمة ولم يكن راشياً أو شريكاً أو وسيطاً ؛ يُمنح مكافأة لا تقل عن خمسة آلاف ريال، ولا تزيد عن نصف قيمة المال المصادر، وتقدر المكافأة الجهة التي تحكم في الجريمة، ويجوز لوزارة الداخلية صرف مكافأة أعلى من المبلغ الذي يحدد بمقتضى هذه المادة وذلك بعد موافقة رئيس مجلس الوزراء عليها ) . ولهذا فقد أحسن المشرع السعودي في الحد من هذه الظاهرة المقيتة التي ما زالت مسيطرة على عقول الكثير من أفراد هذا المجتمع ويجعلهم يفكرون بواسطة هذا الوعي القبلي المتأزم الذي يجب التصدي له وتحجيمه لأن تأثيره لا يقتصر على اللحظة الراهنة، وإنما يمتد إلى أفق المستقبل المنشود . يقول الله تبارك وتعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواء كُونُواء قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالءقِسءطِ وَلاَ يَجءرِمَنَّكُمء شَنَآنُ قَوءمٍ عَلَى أَلاَّ تَعءدِلُواء اعءدِلُواء هُوَ أَقءرَبُ لِلتَّقءوَى وَاتَّقُواء اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعءمَلُونَ) (8) سورة المائدة . [email protected] باحث قانوني