ليست هذه ترجمة كاملة لهذا العمل العظيم، وإنما عرض يشوبه شيء من الشرح والتعليق والمداخلة أو الكتابة على هامش الكتابة ولكي أقدم هذا الناقد العظيم للقارئ العربي - لا سيما وأنا لا أعرف إذا كان أي عمل من أعماله قد تُرجم إلى العربية - لابد أن أتحدث عن النقد الأدبي وتاريخه، وبالطبع فإن الكل يعرف أن رائد هذا النقد هو أرسطو الذي ألف أول كتاب في النقد الأدبي وهو البويطيقا أو الشعريات وقد عرض فيه للتراجيديا، ووعد أن يكتب بعد ذلك عن الكوميديا (الدراما تنقسم إلى قسمين: تراجيديا وكوميديا) ولكننا لا نعرف إذا كان هذا الكتاب قد كُتب فعلاً أم فُقد؟، وقد استند امبرتو ايكو على هذه القضية ليكتب روايته (اسم الزهرة) وتدور أحداث الرواية في كاتدرائية قديمة توجد بها مكتبة قديمة قيل أنها تحتوي على كتاب الكوميديا لأرسطو، ولكن المكتبة تحترق بفعل إجرامي ولا يعثر بعد ذلك على الكتاب، على أنني لا أصدق هذه القصة لأننا نكتشف من أي دراسة عابرة للكوميديا الاغريقية ككوميديا الضفادع أنها تفتقر إلى التلاحم كما أنها لا تخضع للقوانين التي تخضع لها التراجيديا أي أنها لا تخدم أو تضيف شيئاً إلى نظرية النقد التي وضعها أرسطو، ولهذا وكما قلت فإن الأرجح أن أرسطو لم يعرض لها إطلاقاً على أننا نجد هذا التلاحم وهذه القوانين في كوميديات شكسبير وميرافو (كوميدياه بعنوان العبيد) وموليير وبالذات الكوميديا العظيمة «زواج فيجارو» لمؤلفها بومارشيه والتي حولها الموسيقار العظيم موتسارت إلى أوبرا وهي أول عمل كرنفالي ساخر (راجع باختين ونظريته عن الأعمال الكرنفالية وخاصة أعمال رابيليه)، والقانون الأساسي الذي وضعه أرسطو للدراما هو أنها تتكون من ثلاثة تحولات (اكتشف فيما بعد أن أي سرد ليس إلا مجموعة من التحولات) وهذه التحولات هي الحقائق المعطاة أو الوضع الابتدائي أو باختصار البداية ثم الانقلاب وهو التحول من الوضع الابتدائي الذي تغمره السعادة إلى وضع مأساوي أو تراجيدي ثم التعرف الذي يحدث نتيجة للانقلاب إذ يكتشف البطل أنه السبب فيما حدث له أو لعشيرته من مأس فيلحق بنفسه أشد العقاب أو ينفي نفسه من المجتمع هذا إذا لم يقم المجتمع بنفيه، ولعل تراجيديا أوديب لسوفكليس خير مثال لشرح هذا القانون لا سيما وقد أصبحت أشهر تراجيديا لأنها ألهمت فرويد وجعلته يكتشف عقدة أوديب، ولأن أرسطو اعتبرها أعظم مثال للتعرف، وأرسطو لم يلخص لنا هذه القصة لأنه افترض أن الكل قد قرأها وهذا شأن النقاد العظام فهم لا يقومون أبداً بتلخيص العمل الذي ينقدونه، وهذا ما فعله جيرار نفسه حين درس مسرح شكسبير إذ نقد كل مسرحية دون أن يلخصها مفترضاً أنه يتوجه إلى قارئ قرأ أعمال شكسبير، ولكن الناقد العربي يضطر في أغلب الأحيان إلى تلخيص العمل الذي ينقده لأنه متأكد أن هذا القارئ لم يقرأه وذلك كما قلت على النقيض من القارئ الأوروبي، وتحضرني بهذه المناسبة حادثة طريفة فحين كنت أدرس في الجامعة الأمريكية في باريس جاءتني إحدى الزميلات العربيات وهي ساخطة لأنها قرأت نقداً في مجلة فرنسية لرواية مانسفيلد بارك التي ألفتها جين أوستن وصف فيه الناقد بطلة الرواية بأنها كوزيت ولم يقل من كوزيت هذا الأمر الذي أثار سخطها أي الزميلة العربية فقلت لها إن كوزيت أشهر من أن تُعرف لأنها بطلة رواية البؤساء لفكتور هوجو وأنها تنتمي إلى نموذج سندريللا وأن الناقد أراد أن يقول إن بطلة مانسفيلد بارك تنتمي إلى هذا النموذج، ونعود إلى تراجيديا أوديب وسألخصها للقارئ العربي أو بالأحرى ألخص الأسطورة لأن التراجيديا تختلف عن الأسطورة ولا تحتوي على كل التفاصيل التي وردت في الأسطورة» أوديب هو ابن لايوس وجاكوستا ملك وملكة طيبة، وتظهر نبوءة تحذر لايوس من أن ابنه سيقتله، ولهذا عندما يولد له طفل يقيده ويأمر واحداً من خدم القصر بأن يرميه في أحد الجبال ويتركه ليموت، وهذا ما يفعله ولكن أحد الرعاة يكتشفه ويفرح به ويسلمه إلى بوليبوس ملك كورنت الذي يتخذه ولداً وحين يشب أوديب عن الطوق تترامى النبوءة إلى سمعه فيغادر المدينة إلى الأبد من أجل ألا يقتل أباه، وفي الطريق إلى ملاذ يؤويه تعترضه قافلة وتحصل مشادة بينه وبين كبيرها فيقتله وهو لا يعرف أن الضحية هو الملك لاوس أبوه الحقيقي ملك طيبة ثم يعترضه وحش اسمه أبو الهول الذي يحاصر المدينة ويهددها ويقتل كل من تسوقه الأقدار إليه إذا عجز عن حل الأحجية التي يلقيها عليه، ولكن أوديب يحل الأحجية وعندئذ يقتل أبو الهول نفسه، وتتخلص المدينة من شره، فتغمر السعادة سكانها فينصبون أوديب ملكاً عليهم اعترافاً بفضله ويزوجونه بالملكة جاكوستا (وهو بالطبع لا يعرف أنها أمه) ويعيش الاثنان حياة رغدة: (البداية) وقد قلت أنها غالباً ما تكون سعيدة، ثم يظهر الطاعون فجأة في المدينة، فيأتي تريزياس عراف المدينة ويخبر أوديب بأنه السبب فيما لحق بالمدينة من شر، فيرسل شخصاً إلى مدينة كورينت ليثبت أن بوليبوس أبوه الحقيقي ولكن هذا الشخص يقابل الخادم الذي ألقى أوديب مقيداً على الجبل، وطبعاً تحدث المناقضة فبدلاً من أن يبرئ الرسول أوديب فإنه يدينه، وحينئذ تنتحر جاكوستا، أما أوديب فيفقأ عينيه ويعيش فترة في مدينة طيبة ولكن أهل المدينة ينفونه مع ابنته النتيجوني ويموت في المنفى. وقد ألهمت هذه التراجيديا العديد من المبدعين فألفوا العديد من التراجيديات على منوالها وهي ظاهرة أطلق عليها الكاتب الفرنسي أندري جيد مصطلح: Epidemie أي الظاهرة الوبائية وهو قريب من كلمة Eodipie وكما قلت فإن فرويد تأثر بهذه التراجيديا وقرر أنها ليست عملاً من محض الخيال خاصة وأن الصدق الفني يشع منا إشعاعاً وأنها حدثت فعلاً واكتشف بالتالي عقدة أوديب. وبالطبع لابد أن القارئ قد لاحظ التحول والحالات الثلاث التي مرت على أدويب والتي جعلت أرسطو يؤسس قانونه عن الدراما، ولكن هناك ملاحظة أخرى جديرة بالتقرير وهي أن التراجيديا تبدأ من اللحظة التي انتشر فيها الوباء دون أن تعرض للأحداث التي مرت بأوديب قبل ذلك، ثم تعرض للتعرف ثم للنهاية، أي أن أحداث التراجيديا جرت في زمن محدد، كما أنها جرت في مكان واحد هو القصر، وليس فيها إلا حدث واحد، وهذا جعل أرسطو يستنبط قانونه الثاني للدراما وهو الوحدات الثلاث: حدث واحد في مكان واحد في زمان واحد، ولو أن شكسبير سيأتي ويخرق هذا القانون في تراجيديا الملك لير لأنها تحتوي على غير حدث وتجري أحداثها في غير مكان وفي أزمنة مختلفة ولكن هذه التراجيديا تعتبر خارج المألوف إلى الحد الذي جعلت أندري جيد يقول « إن فكتور هوجو نفسه عاجز عن الإتيان بمثل هذا الخيال الجامح» وفيكتور هوجو معروف بخياله الجامح والاتيان بالأحداث المأساوية التي لا يمكن أن تصدق كما في مسرحية هرناني وقد رأيتها ذات مرة تمثل في ميدان Les Vosges في باريس وهو الميدان الذي يقع فيه بيته ولم استطع أن أكملها. ثم أننا نلاحظ أن أوديب شخص خارق للمألوف أي أنه إنسان غير عادي إذ أنه الوحيد الذي استطاع أن يحل لغز أبي الهول وهنا نأتي إلى قانون آخر من قوانين الدراما وهي أن بطلها شخص فوق مستوى الإنسان العادي ولكنه توجد في شخصيته نقيصة هي التي تكون السبب في مصيره المأساوي فأوديب أرعن وأخيل أحمق وأجاممنون مخادع.. إلخ. والمهم أن وظيفة النقد الفني كما أرسى قواعدها أرسطو هي استنباط القوانين الإبداعية التي ينهض عليها والتي سنجد فيما بعد أنها تنطبق على كل الأعمال الأدبية التي تنتمي إلى هذا الجنس، وهذا النقد لا يعرض للمضمون كما رأينا ، أي يمكن أن تعتبره بلغة العصر نقداً شكلياً، والنقاد العرب الذين تأثروا بأرسطو صنعوا صنيعه فلم يعرضوا للمضمون (وأنا لا أعتبر عمل الشراح العرب نقداً) وإنما نظروا فيما وصلهم من شعر ونثر واستنبطوا منهما علم البديع والاستعارة والكناية والتمثيل، ثم جاء عبدالقاهر ووضع علم النظم الذي ينظر في جماليات التراكيب النحوية، وكل هذا كما نرى نقد شكلاني مما يعني أن النقد الأدبي بدأ واستمر كنقد شكلاني، ثم نأتي بعد مئات السنين من أرسطو إلى أعظم ناقد شكلاني في العصر الحديث وهو الذي أسس نقداً شكلانياً أطلق عليه اسم البنيوية وهو كلود ليفي اشتراوس وهو قد تأثر أولاً بعالم الألسنيات السويسري سوسير الذي قرر أن اللغة تتألف من Langue أي نظام لغوي وParole وهو تطبيق للنظام اللغوي وبالتالي إلى دال مادي: شكل أو صوت أو لون، وإلى مدلول أو محتوى ومفهوم ولعل أعظم مثال على ذلك هو إشارة المرور فاللون الأحمر دال وهو أيضاً مدلول يعني «قف» وبالمثل اللون الأخضر فهو دال وأيضاً مدلول يعني «سر»، وحتى اللون الأصفر فهو أيضاً دال ومدلول معناه «تريث» كما تأثر فيما بعد بعالم الفولكلور الروسي فلاديمير بروب الذي طور فكرة النحو السردي وفحص العديد من القصص الشعبية وقاده ذلك إلى اكتشاف 33 وظيفة تشترك فيها هذه القصص، والوظيفة تمثل وحدة سردية مثل «عمل صعب يقترح على البطل» أو أن وغداً يعاقب، وهذه الوظائف موزعة على سبعة مجالات للعمل هي: 1 - الوغد. 2 - المانح. 3 - المعين. 4 - الأميرة: الشخص المرغوب فيها وأبوها. 5 - المرسل. 6 - البطل. 7 - البطل الزائف، ومجالات العمل هذه بسطت من قبل جريماس لتنتج خطته الخاصة بالعاملين Actants. وفضلاً عن ذلك اكتشف ليفي شتراوس مجالاً جديداً لتطبيق نظرية سوسير وذلك باكتشافه العناصر المؤلفة للسلوك الثقافي الذي درسه وكأنه ظاهرة لغوية، وفي سبيل البحث عن البنية الدلالية (النظام اللغوي Langue) التي تنهض عليها الثقافة فقد اتجه إلى الاهتمام بالأساطير، وقام بتحليل أساطير من ثقافات مختلفة واكتشف عدداً من العناصر المشتركة المتكررة الحدوث التي سماها ميثيم mythemes كمقابل phoneme الوحدة الصوتية وmorpheme الوحدة الصرفية وكذلك الوظائف التي تؤدي عملها كعناصر لبناء دلالي شمولي، وقد سئل ليفي شتراوس ذات مرة لماذا تكتب عن الهنود ولا تكتب عن قومك؟ فأجاب: «إن العالم الأنثروبولوجي لا يستطيع أن يتحدث عن قبيلته، ولكنْ هناك عالم كتب عن قبيلته وهو الناقد الفرنسي رينيه جيرار الذي درس فترة في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، وهو ناقد ظهر في فترة عنفوان البنيوية وسيطرتها ولكنه لم يتأثر بها ولم يستخدمها ولكنه حصر كل دراساته وهي عديدة على المضمون، وهذا لا يعني أنه ناقد مضمون ولكنه ناقد درس مضمون عشرات الروايات العظيمة: بحثاً عن الزمن المفقود لبر وست ومسرح شكسبير واستنبط منها قانوناً ينطبق على السلوك البشري وخاصة عاطفة الحب أو نيران الغيرة وجحيم الحسد .