بما أن الضوء هو اللاعب الأساسي في علم الفيزياء، أصبح هو أيضاً لاعباً أساسياً في علوم التلقي المسرحي، فقد كان الفضاء المسرحي مرتعاً للمجربين في استغلال الضوء في هذه العملية شديدة التأثير، والسبب هو طبيعة الضوء الذي يشغله في مجال المعرفة، وذلك لكونه ضرورة إحدى حواسنا الخمس.. لقد شغلت فلسفة الصورة والمادة جل الفلاسفة بطريقة غير محددة أو محدودة، لكن ما يهمنا هنا هو المسرح وكيفية كان انعكاس ذلك عليه. حين وصل الفيلسوف" هيزنبرج " إلى أن" المادة غير معروفة لنا - أننا لا نستطيع القول إن المادة تتألف من ذرات أو طاقات - نستطيع فقط أن نقول إننا نعرف المادة عن طريق الذرات أو الطاقة، وهذا لا يعني أن المادة تتألف من هذه أو تلك. والتعامل مع الوحدات الأساسية للمادة الطبيعية مستحيل، فحينما نصل إلى عالم التركيب النووي يستحيل علينا التحديد". فهنا تنقلب المعايير السابقة بأن المادة تسبق الصورة حيث إن المادة تتألف من ذرات أو طاقة حيث أصبح المنطق معكوساً، فأصبح التعرف على المادة وإن كان مستحيلاً بأسبقية الذرات والطاقة، وهنا يمكن القول: إن أسبقية الطاقة والذرات عن المادة تجعل استغلال هذا المنطق المعكوس في الحدث الدرامي- وخاصة مع ظهور فلسفة الكوانتم، حيث يمكن تشكيل النص أو العرض المسرحي بهذا المنطق بحسب فلسفة الضوء به. إنه يذكرنا بمبدأ أسبقية المفهوم المعرفي، أي أتى دفعة واحدة كما قال "دريدا" أم يأتي تجميعياً لذلك التشظي نتاج التصادم الصوري والصور المتغايرة والمتقاربة في نفس الوقت. كما أنه يمكن استغلال هذا المنطق في توليد الطاقة الحرة لدى اللاعبين لأن هذه الطاقة تنتقل بالعدوى إلى المتفرجين عبر موجات مغناطيسية غير محسوسة، وهذا التفريغ للطاقة هو ما ينتج عن الإحساس بالاسترخاء والمتعة نتاج التخلص من الطاقة الزائدة وهو ما نراه في مدرسة الرقص الحديث، أو ما نراه في الحفلات الجماعية في هذه الأيام. وهنا يستحيل تحديد المعنى كما ورد في هذه الفلسفة ولكنه يحدد وظيفة أخرى بالغة الأهمية وهو المتعة والصحة النفسية وهو ما يقترب من مبدأ أرسطو في ما أسماه بالتطهير (زيادة جرعة المأساة)، ولكنه هنا يأتي عن طريق التخلص من الطاقة الزائدة، ثم ينقلنا إلى الصورة الكلية بعد انتهاء العرض. أي أن المتلقي يقوم بترتيب تلك العناصر في ذهنه ترتيباً درامياً بعد أو مع الستار الأخير. حينما يقول "هيزنبرج": (ليس باستطاعتنا أن نطلب من الباحث أن يكون دقيقاً للغاية، إننا نعرف الشيء بالتقريب هو الشيء نفسه الذي عرفناه من قبل ، لكنه لا يمكن أبداً أن يكون هو نفس الشيء الذي كان عليه تماماً، بل إنه قريب مما كان عليه لدرجة كبيرة) وهو ما نجده في مسرح العبث ثم تزداد حدته في التفكيكية، فقد ينجو المسرح وبالتالي المتلقي من تلك الغربة الزائدة والتي دبت في أوصال المسرح الحديث إذا ما نظرنا إلى تلك المقولة سالفة الذكر، بأن الشيء ليس هو وإنما يقترب منه قليلاً ما يحثنا على الحميمية مع النص أو العرض فنبذل جهداً كبيراً في التركيز ومحاولة الفهم المتشتت مما يزيد من بذل الطاقة الزائدة ثم التخلص منها، لأنه في نفس الوقت يحدث شيء من التوتر الدرامي وإيقاظ الوعي التام لدى المتلقي فتنتفي هنا مقولة الإيهام التام وهذه هي أنسنة العمل الفني، التي نبحث عنها. فمن هنا ينتفي الرجوع إلى الصورة نفسها أو الحدث نفسه على أنه هو. إنه في تغيير دائم وهذا يرجع إلى مبدأ اللا يقين في الحدث المسرحي - الذي ذكرناه في المقال السابق - ومن هنا يحدث التغيير الصوري بحيث أن لا تكون الصورة التالية أو السابقة هي نفسها بل يمكن أن تقترب منها بقدر الإمكان إنما لا تكون هي ذاتها وهنا ينتفي مبدأ الهوية هي ذاتها أو مبدأ ال"هو . هو" في فلسفة الحدث أو النص المسرحي، ذلك لأن مبدأ هيزنبرج يقول: "إنه لا يمكن وصف أي أحداث .. بيقين أي بدقة كاملة تامة". وهنا يدخل مبدأ الاحتمال دون الحتمية في الحدث إذ يمكن أن تكون الأحداث قريبة جداً من سابقيها ولكن لا تكون هي ذاتها وإنما الاقتراب وعدم الدقة ينفي الحتمية ويقودنا إلى مبدأ الاحتمال الذي ورد عند هيزنبرج. "كل ما يمكن للعلم أن يدركه هو الكميات والكيفيات ولكن لا سبيل إلى إدراك الماهيات". وهذا لا يختص بالجسيمات الكبيرة إنما خاص بالإلكترونات الدقيقة حين استخدام الضوء بحسب الكوانتم. لذلك أصبح الضوء يلعب دوراً أساسياً، وكذلك في المسرح سواء عن طريق كتابة النص أو الصورة المعروضة لما وصل إليه علم الفيزياء في الضوء في التشكيل الصوري كما أن الطاقة تلعب دوراً كبيراً سواء كانت من جانب المتلقي أو المرسل. في نظرية تصور الضوء والمادة يعنيان الطاقة إذ تقول: "إن هذا الاتحاد النهائي التصوري الضوء والمادة في وحدة ذلك الكيان" الطاقة "قد دعمته خطوات الفيزياء المعاصرة يوم أن اكتشفت أن الجسيمات المادية قادرة على الاختفاء مخلفة وراءها إشعاعاً، وأن الإشعاع يستطيع أن يتكثف إلى مادة وأن يخلق جسيمات جديدة ... أن يفني كل منهما الآخر وهذا الإفناء.. مع مراعاة مبدأ البقاء .. تغير شكل الطاقة هذا مع بقائها لتتحول من مادة إلى ضوء والعكس .. وهنا يمكن أن تتحول طاقة الضوء إلى مادة". إن تحول الضوء إلى مادة والعكس هو ما يدخل فلسفة جديدة في المسرح. فالنص المسرحي أو الأدبي يجب هنا أن يحلل جزيئات الحدث بالضوء ليتحول إلى مادة للحدث والعكس حيث يمكن تحويل الحدث عن طريق الفعل أو الشخصية أو التتابع الصوري إلى مادة مجسمة في النهاية، لأن اتحاد الضوء بالمادة هو ما ينتج لنا الطاقة تلك الطاقة المزدوجة بين المتلقي والمرسل، فالضوء لدى هيزنبرج يتحول إلى مادة حين يقول: "أخيراً كشف الضوء النقاب عن وجهه فإذا به يستطيع أن يتكثف ويتكثف ليعود آخر المطاف مادة بينما تستطيع المادة أن تتبدل لتصبح في نهاية المطاف إلى ضوء". "فإن المكون الكمي في مصطلح تكنولوجيا المسرح (كوانتم) واشتغالات معادلاته الفيزيائية تنطلق من نظرية الحقول الكمية وهي نظرية مركبة من نظرية الحقول الموجية ونظرية الكم، وتركز على تفسير حزمات الضوء والتي تنتشر في فضاءات العرض من خلال الكلمات وتحديد العلاقة ما بين الرؤية وفيزيائيتها البصرية وبين الطاقة وكميات التردد الصوري في الكم الصوري لدى المتلقي". وبما أن الضوء هو اللاعب الأساسي في علم الفيزياء، أصبح هو أيضاً لاعباً أساسياً في علوم التلقي المسرحي، فقد كان الفضاء المسرحي مرتعاً للمجربين في استغلال الضوء في هذه العملية شديدة التأثير، والسبب هو طبيعة الضوء الذي يشغله في مجال المعرفة، وذلك لكونه ضرورة إحدى حواسنا الخمس.