لم يعد لدى العقل المعرفى والثقافي المعاصر شك في أن الحوار الحضاري هو أفضل وسيلة لحل النزاعات، ونشر السلام العالمي، وتعميق قبول الآخر، والتشارك معه في عمارة الأرض، وترقيتها، وبناء الحياة الإنسانية. ولن يكون الحوار حضارياً ويعمق تلك النظرة الطموحة إلا إذا قضى على العنف والإرهاب، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، أو التكبر عليه، واحتقاره، وهضم حقوقه، وتشويهه، وانتشال المجتمعات المقهورة من وطأة الصراعات السخيفة، والأخذ بيدها نحو الموقع العالمي، والبيئة الحضارية السعيدة، ودفع العالم إلى أن يضع أمواله في الفعل الحضاري بدلاً من صناعة التسلح التي تهلك كل شيء وتقود سفينة العالم إلى التنافس نحو الهلاك. فكلما تعمقت جسور الثقة بين الأطراف المتحاورة تخرج التجارب ناجحة، وممتدة، ومثمرة، وجديدة، ودائماً ما تتولد التجارب الجديدة من احتكاك الثقافات، وتفاعل الخبرات الثقافية، والتنموية، وتأتي المعالجات الحضارية من الاستماع إلى الجانب الآخر، والتعاون معه لخير الإنسانية وتوفير بيئة دولية آمنة. في ظل الحوارات الحضارية التفاعلية تنمو الحضارات، وتتسع، وتزدهر، ومؤتمرات الحوار الدولية لا بد أن تهتم ببناء الجسور أقوى من ذي قبل، فالأجواء الدولية الخانقة تتطلب تعايشاً، وتفاهماً، وتعاوناً كبيرا يريح الإنسانية المعاصرة من معاناتها الشديدة وصراعاتها المهلكة، ويطمئنها على المستقبل القادم بتحدياته وتعقيداته، وتخوفاته. ولا شك أن مد جسور التفاهم والتواصل المستمر مع الاستمرار في تطوير لغة إيجابية للاحترام والتحاور من أهم عوامل استدامة التواصل الحضاري، هذه الاستدامة كضرورة حياتية ومستقبلية يحتاج العالم إليها لتعميق الاستقرار بين الأفراد، والأمم، والشعوب، ورفع التعاون المثمر بينها إلى القمة، والآفاق العليا. ويستطيع كل خطاب حواري أن يحظى بالاستدامة المثمرة إذا حرص على مصلحة الأطراف المتحاورة ومستقبلها. يستطيع حوار الحضارات أن يقدم حلولاً لكبرى المشكلات التي تستعصي على الإنسانية اليوم والغد كالقلق العالمي من الفقر، والأمراض، والكوارث، ومشكلات البيئة، والحروب التي تدمر الأخضر واليابس، ورفض الآخر، وغيرها من الأمراض التي تقبض صدر الإنسان، وتخيفه من المستقبل، ولا ريب أن تقدم الأمم وسط التحولات العالمية المتسارعة مرهون بفاعلية الحوار في سياساتها الداخلية والخارجية على سواء، لذلك لا مانع من تُنشأ جامعات جديدة باسم حوار الحضارات لتنشئة أجيال تعي فقه الحوار ومفاتيح نجاحه محلياً، وعالمياً، ولتشكيل العقلية الحوارية التي تحسن استيعاب الآخر، وقبوله والتفاهم معه في إطار يحمي خصوصية الهوية، والحضارة، والثقافة، والتفكير، والتخطيط للمستقبل. لا بد من استدامة الحوار الحضاري كي يزيد اهتمام الأوساط الدولية بفاعليته ولكى يهنأ العالم بالسلام، والتعايش بدلاً من أن يهلك بالصدام والصراع، والعنصرية، والتعصب الديني والمذهبي، كما لا بد أن يسيطر على أجواء العلاقات الدولية المقبلة ليصبح العالم أكثر أماناً واستقراراً، ويتحرك نحو بناء عالم جديد، فالحوار الحضاري بين دول العالم هو سفينة النجاة لبناء السلام العالمي في الحاضر والمستقبل. يتهاوى حوار الحضارات عندما لا يعمل في مسار تجديد علاقات الدول بما يعزز التنمية المستدامة ويسمح بأطر دولية تعاونية جديدة، ويتهاوى ويضعف أيضاً حين لا يكون من أهدافه تشجيع الإبداع، والابتكار. فبيئة الحوار الدولي عملية تكاملية قبل أن تكون كلامية أو تتم فقط في إطار الندوات، والمؤتمرات، والأجواء الدبلوماسية. وتمتد لتصبح قيمة دولية تحكم العلاقات، والمخاطبات، والتفاهمات الدولية. حوار حضاري مستدام يعني استمرارية الثقافة والتنمية في رسم مستقبل مشرق للإنسانية بما يمنح المجتمعات روحاً سلمية متجددة تلائم تطلعاتها الطموحة، فالحوار الحضاري يصعد بالمجتمعات، ويمنع تصدير الشرق والغرب لصراعات جديدة، ويصلح ما تفسده الاضطرابات المتنامية نتيجة سوء النيات، والنزاعات الدولية، والاضطرابات المجتمعية. البشرية كلها اليوم بحاجة إلى تأسيس حوار دائم لإيجاد صيغ جديدة لاستنهاضات دولية معاصرة، ولا شك أن غياب الحوار الحضاري يهدد السلام العالمي، ويهدد مستقبل الإنسانية، وحتى لا تقع الإنسانية ضحية للنزاعات المستمرة فلا بد من استراتيجية جديدة لهذا الحوار تطمح إلى التواصل الدائم والتفاهم المستمر، وأن يكون العالم في حالة حوار دائم عبر المجالات الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية.