في تلاحق الدوائر الحضارية نشبت صراعات وسالت دماء وسُطّر تاريخ من التناحر البشري غلب على المسارات الإيجابية التي نجمت عن هذا التلاحق، وذلك التلاقح الذي لا ينتهي بين الحضارات الإنسانية، على مستوى الفكر والحركة، والذي لولاه ما مضت حياة بني آدم على الأرض في خط متصاعد، بحثاً عن الحقيقة والتمكن والرفاه. وغلبة التناحر والتباغض على التعاون والتفاهم في ما تم تسجيله ورصده عن العلاقات المستمرة بين الحضارات يعود إلى أمرين أساسيين، الأول أن الصراعات المسلحة هي الأحداث الأكثر لفتاً للانتباه، وتترك علامات يمكن معرفتها وتحديد معالمها بيسر وسهولة، وبالتالي أمكن تدوينها لتطغى على التفاعلات الناعمة وغير المرئية، بين الحضارات والتي لها البقاء الفعلي، والفعل الإيجابي الذي يغلب مع الزمن كل ما سطره المحاربون بكل عدتهم وعتادهم بدءاً من سنابك الخيول والرماح الممشوقة المسنونة وانتهاء بجنازير الدبابات والصواريخ العابرة للقارات. والثاني هو أن الإمبراطوريات استخدمت في تمددها العسكري تعبيرات ومفاهيم حضارية كخطاب تحايلي يرمي إلى تبرير مسلكها العدواني التوسعي، اذ تحدث قادة الجيوش عن رسالة حضارية مزعومة، وأرسلوا إلى الشعوب المراد غزوها رسائل تقول إنهم لا يستهدفون احتلال الأرض ولا نهب الثروات إنما تمدين الناس وترقية حياتهم وتخليصهم من حكامهم الطغاة. لكننا في هذه اللحظة التاريخية الفارقة لا يجب أن نستسلم للمقولة التاريخية التي تتصور أن «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبداً»، لأنها أولاً من صك المحاربين وليست من صناعة أهل الفكر والدراية، وهي ثانياً تختلف مع منطق الحياة وطبيعة تطورها التي تقول بجلاء إن تاريخ الإنسانية عبارة عن طبقات يركب بعضها بعضاً، وأن الناس جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها صنعوا طيلة عمرهم المديد هذه الطبقات، فصارت رقائق حضارية متواصلة ومتداخلة ومتفاعلة. وقد حاول بعض المفكرين الغربيين أن يهيلوا التراب على عطاء الحضارات الأخرى، ويهضموا حق شعوبها في الإبداع الخلاق، فروجوا لفكرة «المركزية الأوروبية» ذات الصبغة العنصرية والتي تتوهم أن شعلة الحضارة انتقلت من الإغريق الأقدمين إلى الأوروبيين المحدثين، ولم تمر بأي وسائط، ولم تتأثر في نشأتها بأحد، ولم تنقل في وصولها إلى الزمن الحديث عن أحد. لكن هذه المغالطة لم ترض كثيرين بمن في ذلك علماء غربيون، تحدث بعضهم عن أن الإغريق نقلوا عن الحضارة الفرعونية، وأن العرب والمسلمين أضافوا الكثير إلى ما أنتجته القريحة الإغريقية، وأهدوه للإنسانية، فالتقطه الأوروبيون وهضموه واستفادوا منه، وزادوا عليه كثيراً حتى وصلنا إلى التقدم العلمي والتقني الرهيب الذي نعيشه الآن. ولمّا أراد بعض العقلاء أن يقربوا بين البشر المختلفين في الألسنة والألوان والمشارب والأهواء والظروف الحياتية، ساروا في اتجاهين الأول هو حوار الحضارات والثاني يتعلق بحوار الأديان. لكن الطريق الأخيرة ملغمة إلى أقصى حد، فنقاط الخلاف بين الإسلام والمسيحية واليهودية تتمحور في جانب كبير منها حول العقيدة، وهي مسألة غير قابلة للتفاوض ولا التنازل أو المساومة. وعلى رغم أن الأطراف المتحاورة تحاول تجنبها أو تدعي ذلك فإنها لا تستطيع أن تتجاوزها، ولم تنجح إلى الآن في تفرقة جلية بين «اللاهوت» و «الناسوت» . ولأجل كل هذا اقتنع كثيرون في نهاية المطاف، وبعد جولات عدة من النقاش والمداولة، بأن الحوار يكون بين أتباع هذه الديانات، أو بين المتدينين أنفسهم، وليس بين الأديان ذاتها. والوصول إلى تلك النقطة يجعل الحديث عن حوار الحضارات لا حوار الأديان هو الأجدى والأنفع. فالحضارة تشمل الدين، لكن الأخير لا يشملها، وفي الوقت نفسه فإن تجاذب أطراف الحديث حول الحضارات أخف وطأة على النفس وأيسر على العقل من التعامل مع العقائد. ووجه الشمول في المدخل الحضاري أنه يجمع بين الدين وغيره في نسيج واحد مترابط، فيبتعد الحوار عن المسائل العقدية ليركز على الثقافة النخبوية وطرائق المعيشة بما فيها العادات والتقاليد والموروث الشعبي ومستوى المعارف التي ارتقى إليها تجمع بشري ما، والأفكار المتداولة في لحظة التحاور، والآداب والفنون التي يتم إبداعها، وأنماط الإنتاج السائدة. ويدخل كل هذا محل نقاش حول سبل استفادة كل طرف مما لدى الآخر من هذا المخزون الحضاري، المادي والمعنوي، وهنا يصبح الباب مفتوحاً أمام عطاء مجالات علمية وعملية عدة ومنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والفنون. ويبدو أن الذين رفعوا شعار «حوار الأديان» بدأوا هم أنفسهم يتجهون إلى التحاور الثقافي والحضاري، منطلقين من أن أطروحة «حوار الحضارات» لم تمت أمام المد الكاسح للمقولات والتصورات المضادة، التي بنيت على أساس الصراع والصدام باعتباره «حتمية تاريخية» والتي رمت إلى تسويق المشروع الإمبراطوري للولايات المتحدة الأميركية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانقضاء نظام «القطبية الثنائية». لكن حوار الحضارات واجه بفعل سياسات المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة تحدياً كبيراً في المسار والمصير، وظهر في لحظة ما وكأنه حيلة من قبل الضعفاء لترويض القوة المفرطة لأميركا وحلفائها، من دون أن يفقد المتحمسين له لأسباب إنسانية وقناعات سياسية في الغرب ذاته. وربما يعود هذا إلى أن هناك إدراكاً لمعادلة حياتية تقول من دون مواربة إن الحضارة كانت دائماً وأبداً محور الالتقاء بين الشعوب التي كان صراعها السياسي والعسكري عادة ما ينتهي إلى التقاء حضاري تذوب فيه الخصومات، ويبدأ معه التفاعل الذي ينتهي إلى الاتصال والتعاون والأخذ والعطاء والتأثير والتأثر، والأهم من هذا وذاك التقاء الشعوب المتخاصمة، وبداية التعايش وتبادل الأفكار. وقد أثبتت أطروحة «حوار الحضارات» أنها إحدى الوسائل المهمة والحيوية لإنقاذ العالم برمته من جنون الصراع المفتوح، الذي أعاد الاستعمار التقليدي إلى التاريخ بعد أن ظن كثيرون أنه رحل إلى غير رجعة، وأوقع العالم في أزمة مالية طاحنة، مدت أياديها السود فأضرت الجميع، وبرهنت على أن العالم ليس منقسماً إلى معسكرين متطاحنين، كما يطرح أسامة بن لادن في كلامه عن «الفسطاطين»، ولا إلى معسكرات عدة يتحالف بعضها مع بعض استعداداً لصراع ضروس بين الحضارات الإنسانية، كما زعم صمويل هنتنغتون، إنما هناك مخاطر مشتركة وغايات متطابقة تضع الجميع، أو حتى الغالبية، في خندق واحد، أو على الأقل في خنادق متلاصقة. ومع إقصاء المحافظين الجدد عن البيت الأبيض، وتبني الرئيس باراك أوباما تصورات مغايرة تنطوي على فتح حوار جاد وبناء مع العالم الإسلامي، بات من الضروري أن تفتح الأبواب على مصاريعها أمام كل من بوسعه أن يقدم أي مقاربة أو إسهام جوهري أو عارض، عميق أو سطحي، متسع أو ضيق، لتعزيز التوجهات المعززة لحوار الحضارات. وحتى لو لم تأخذ هذه المقاربات طريقها إلى التطبيق الكلي أو الجزئي، فإنها ستسهم، من دون شك، في تشجيع الذهنية المنفتحة على الآخر، ومحاربة الانغلاق والجمود والتطرف التي تفضي إلى ممارسة العنف المتبادل بين أتباع الحضارات والثقافات. لكن من الضروري أن يتفادى حوار الحضارات العيوب التي وصمت العديد من المقاربات التي رمت إلى إطلاق الحوار بين الحضارات، وتحسين شروطه، ويمكن ذكرها على النحو التالي: 1 - اختلاط الأدوار والقضايا، اذ تتداخل المسائل العقدية مع الفكرية، وتحل الرؤى والتصورات الدينية في وقت يكون النقاش بحاجة ماسة إلى تجنيب ما يختلف عليه، ولا توجد فرصة في تغييره، ولا يحبذ أي من المتحاورين التنازل عنه، وإعلاء ما يتم الاتفاق حوله، وما يمثل قواسم مشتركة بين الجميع. وما يزيد الطين بلة أن العديد من الحوارات تُترك لرجال الدين وعلمائه، وهؤلاء ينصب اهتمامهم الأساسي على الدفاع عن المعتقدات والمسالك المذهبية، وتبرئتها مما يلصق بها من اتهامات، وما يلقى عليها من صور نمطية مغلوطة. ولا يعني هذا إبعاد المعتقد الديني عن الحوار برمته، إنما تخصيص مسارات له، تساعد المجرى الرئيسي للحوار والذي يجب أن ينصرف إلى القضايا الثقافية والمصالح المتبادلة في المجالات كافة. 2 - التوظيف السياسي لفكرة «حوار الحضارات» من قبل الدول الكبرى، فالسياسة تشكل جوهر الصراع الحضاري المزعوم، بل إن إمعان النظر في طبيعة الصراع الدولي الراهن، أو السابق، وربما اللاحق، يكتشف للوهلة الأولى. ففي حقيقة الأمر، «الحضارات لا تتصادم، وإنما تتصادم القوى السياسية والاقتصادية النافذة في حضارة من الحضارات مع قريناتها في حضارات وثقافات أخرى. والصراعات السياسية في حد ذاتها باتت من السمات والصفات والطبائع المستمرة لدى الكيانات البشرية، عائلات أو قبائل أو دولاً أو إمبراطوريات، لكنها المحاولات الزائفة التي تلبس هذا النوع من الصراعات لبوساً حضارياً، وتحاول أن تمده على اتساعه، وتمنحه عمقاً، عبر ربطه بالحضارات، هي التي تشكل خطراً على الحوار الحضاري، وتجعل منه مجرد تكتيك في استراتيجية كبرى، أو تفصيلاً جزئياً في تصور سياسي شامل ينطوي على رغبة عارمة في الهيمنة والاستحواذ من قبل الدول الكبرى على نظيرتها الصغرى. 3 - حصر الحوار في نطاق النخب، بشتى أنواعها، وعدم الالتفات إلى الجمهور العريض، المعني بهذا الحوار، والذي يمكن أن يساهم في إنجاحه، لو وضعت خطة متكاملة الأركان، يشارك الجميع في صياغتها، من أجل إشراك الناس جميعاً، في مشارق الأرض ومغاربها، في الحوار عبر مختلف أدوات الاتصال الجماهيري، التي شهدت ثورة كبيرة في السنوات الأخيرة. 4 - غلبة اللغة والتوجهات الاستعلائية، التي تنطلق من أن هناك أطرافاً أقوى وأكثر تحضراً من الأخرى المتحاورة معها. ومثل هذا التصور يقود إلى إزكاء الصراع وتأجيجه، وليس إلى قيام حوار إيجابي يقود إلى التعاون. فالصراع يحدث عندما تختال إحدى الثقافات على الأخريات، وتعتبر نفسها الثقافة العظمى، ودونها الصغريات، والعلاقة بينهما هي علاقة ميتافيزيقية، علاقة بين الواحد والكثير، علاقة ذات صلة بالوجود، علاقة بين الإله والمخلوقات، بل إنها علاقة أخلاقية بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، إنها ثقافة واحدة، في سعيها إلى القوة، تتجاوز كل الثقافات الأخرى، وتتفوق عليها. وفي ظل السعي لتجاوز هذه العيوب، هناك من يتوقع أن تصل الحضارات البشرية كافة في وقت، طال أم قصر، إلى نوع من التماثل في التطبيقات التقنية، وبالتالي تتماثل طرق المعيشة. لكن هذا التماثل في مجال التقنيات لا يعني أبداً خلق أنماط إنسانية، بل ستظل هناك حضارات متمايزة جداً، وذلك بحكم اختلاف البشر، وهو اختلاف طبيعي، لا جدال فيه. وسوف يكون لفظ الحضارة على المدى البعيد، سواء احتفظ بطبيعته الفردية أو الجماعية، أو بهما معاً، لفظاً لا يتوقف أمامه المؤرخون، أو يترددون بشأنه في الوصول إلى رأي صريح حازم قاطع. وظني أن هذا الرأي القاطع لن يخرج عن الإيمان بثلاثة أمور أساسية، الأول هو أن الحضارات الإنسانية لا تفنى كلية، ولا تنتهي أبداً إلى العدم، بل هي تندمج، أو ما تبقى منها، في الحضارة التي تليها. والثاني هو أن أي حضارة، مهما علا شأنها، مصيرها التراجع، لتفسح الطريق أمام غيرها ليتقدم، وهذه سنة حياتية لا فكاك منها، مهما طال الزمن بتسيد حضارة ما. أما الثالث فهو أنه لا يوجد ما يمنع منعاً حتمياً أن تعود حضارة أفل نجمها إلى سابق توهجها وعطائها. وتلك الآراء الثلاثة تفرض أن يظل الحوار مفتوحاً بين الحضارات، أياً كان وضعها، ومهما كان حجم عطائها، فلا أحد يمتلك كل شيء وكل معنى، ولا أحد محروماً من أي شيء وأي معنى. ومن هنا فإن الجميع يحتاج بعضهم إلى بعض. وبالمفهوم الاقتصادي فإن كل طرف حضاري لديه ميزة نسبية في أمور معينة، ومن ثم يصبح من الرشد أن يتبادل الناس المزايا، وكل ما يفيد البشرية في بحثها الدائب والدائم عن الترقي في المعيشة، وتحسين شروط الحياة وفرصها. وهذا الفهم، الذي يجب أن يشتد ساعده ويترسخ، لا يصح أن يترك فقط للمؤسسات الرسمية، سياسية، دينية أم ثقافية، لكن من الضروري أن يمتد إلى الأفراد العاديين المتحضرين، في مختلف أرجاء المعمورة، ممن يؤمنون بأن الحوار هو الطريق الأمثل للتعامل بين البشر، وبالتالي السبيل الأفضل لإقامة علاقات إيجابية بين الوحدات التي ينتظم فيها الناس أكانت مؤسسات، دولاً أم حضارات جامعة. إن ثورة الاتصالات الرهيبة، التي حولت العالم بأسره إلى قرية صغيرة، تقدم آلية قوية لقيام تحاور بين المتحضرين، بعيداً من المسارب الرسمية، التي تسيس الحوار وترهنه بالمصالح الدولية والتصورات الاستراتيجية لكل دولة، أو تكتل إقليمي ما. والحوار بين المتحضرين يجب أن يشمل الأفراد والتجمعات الشعبية على حد سواء، فمؤسسات المجتمع المدني التي يشتد ساعدها ويترسخ وجودها في مختلف التفاعلات والعلاقات الحياتية وتتعزز روابطها على المستوى العالمي، عليها دور كبير في إطلاق حوار المتحضرين، جنباً إلى جنب مع الجهود الفردية، التي يبذلها أناس ضمائرهم يقظة، قلوبهم موجوعة ونفوسهم قلقة، مع حالة التوحش التي يعيشها العالم. * كاتب مصري