في إحدى المحاضرات، بينما كنت منشغلًا بشرح فكرة أكاديمية دقيقة تتطلب تركيزًا متواصلاً، رفع أحد الطلاب يده وسأل بصوت هادئ: "دكتور، كيف يمكن للإنسان أن يستعيد حماسه في الحياة إذا شعر أنه فقده؟" كان السؤال مفاجئًا، لا علاقة له بموضوع الدرس، ولا بجدول المحاضرات، ولا حتى بتوقيت الطرح، وهذا ما دعاني لأتوقف للحظات، ثم أكملت الشرح متجاهلًا السؤال، ليس لأنني لم أقدّر ما قاله، ولكن لأن السياق الأكاديمي لا يسمح بالخروج المفاجئ إلى مساحات شخصية بهذا الحجم. ومع ذلك، بقيت كلماته تتردد داخلي، كأنها كانت موجهة إليّ قبل أن تكون موجهة للفصل. انتهت المحاضرة، وقبل أن يغادر الجميع، طلبت من الطالب أن يتحدّث معي على انفراد. ولقد لاحظت توتره، لكنني أردت أن أسمعه لا أن أعاتبه، فسألته بلطف: "سؤالك في القاعة... كان غريبًا بعض الشيء، أليس كذلك؟" ابتسم بخجل وقال: "أعرف أنه لم يكن في وقته، لكنني أشعر أنني تائه.. وأردت فقط أن أسمع رأيًا صادقًا. لا أجد من أتحدث معه في مثل هذه الأمور". عندها، أدركت أن هذا سؤال خارج عن الدرس، وما هو إلا تعبير عن حالة داخلية مضطربة، فهو لا يبحث عن إجابة علمية، بل عن لحظة صدق، ولم يكن ليقاطع الدرس، بل يطلب انتباهًا لما لا يُقال. تحدّثنا لدقائق قليلة. لم أقدّم له حلولًا سريعة، بل اكتفيت بأن أشاركه بعض ما مررت به من محطات فقدت فيها أنا أيضًا حماسي، وتعلمت كيف أستعيده بالتدريج. لم أقدّم له درسًا، بل قصة من الحياة. في الأسابيع التالية، لاحظت أن الطالب بدأ يستعيد نشاطه، يشارك في النقاش، يبتسم أكثر، ويبدو أكثر اتزانًا. وعند نهاية الفصل الدراسي، سلّمني ورقة صغيرة كتب فيها: "شكرًا لأنك منحتني مساحة لم أجدها في مكان آخر". ذلك الموقف علّمني شيئًا مهمًا: ليس كل سؤال غير متوقع هو قاطع للدرس، فقد يكون جسرًا لفهم أعمق، وأحيانًا، يحمل الطلاب داخلهم تساؤلات لا تُقال إلا في لحظة عفوية، والمربّي الواعي هو من يدرك أن خلف تلك التساؤلات حكايات صامتة تنتظر أن تجد من يسمعها. نحن لا ندرّس مقررات فحسب، بل نتعامل مع بشر يحملون مشاعر وتجارب، وقد يكون أحدهم في أمسّ الحاجة إلى نظرة فهم، أو كلمة تعاطف، والمواقف التي نظنها "غير مناسبة" قد تكون هي الأكثر أهمية في صناعة الأثر الحقيقي.