مركز الملك سلمان للإغاثة ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير المقبل    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شريف صالح والوشمي: عثرنا على الحياة في أرجوحة الثلج ومتعة القفز فوق الأسوار
قلبان يتجاذبان موسيقى البوح في أوبرا «سيدني»:
نشر في الرياض يوم 20 - 12 - 2014


شريف صالح
د. عبدالله الوشمي
الوشمي في افتتاح برامج المركز في سنغافورة مع سعادة السفير وسعادة الملحق السعودي
الوشمي مع أساتذة اللغة العربية وطلابها في الصين
د. الوشمي مع الدكتور السبيل ضمن زيارة ثقافية
شريف في ساحة الفنا في مراكش
الوشمي في محاضرة في اليونسكو
د. الوشمي في محاضرة في خميسية الشيخ حمد الجاسر
الوشمي في اللقاء التشاوري لعمداء كليات اللغة العربية
شريف في احتفالية مجلة دبي بالفائزين بجوائزها
شريف مع الروائي ابراهيم عبدالمجيد والدكتور خيري دومة ومحمد بركة
شريف في رأس البر
شريف في قريته
شريف على شاطئ الخليج
قبل سنوات من الآن.. كنت في أحد المقاهي التي يطل زجاجها على الأرصفة والشوارع المكتظة بالعابرين.. كانت قطرات المطر تنزلق على ذلك الزجاج الذي بدا مستفزا ومحرضا للقراءة الكونية التي تدفع لمزيد من الصمت.. كنت أقف أمام الحاجز الزجاجي واجرب أن أنسحب مع مشهد الناس وهي تهرب من المطر خشية أن يبلل ثيابهم، فيما يبقى البعض منهم يراقب تلك الحالة بابتسامة وهدوء..
رسمت خطوط رفيعة على ذلك الزجاج بأصبعي.. وكلما كتبت شيئا جاء الضباب ليمسحه ويعيده إلى مكانه حيث الروح.. في تلك الفترة كان مشهد الحياة من خلف الحياة يشبعني لهفة لمزيد من الأحلام.. اليوم أشعر بأن إيمانا جديدا يتشكل بداخلي، الحياة لم تعد تقف أمامي ومايفصلني عنها لوح من الزجاج الشفاف الذي يقدم لي قناعات تتطاير مع الضباب كلما رسمتها.. اليوم أدخل بقلب اللعبة وأخوض صراعاتي مع الحقيقة التي تضع إصبعها على صدري وتقول لي.. أحسي الحياة بقوة واقتحمي الزجاج لتكوني بداخل تلك الحياة الماطرة..
في أدق حالات التوق تلك.. أفتح ذراعي للسماء حتى تلتهم الفرح، ذلك الفرح الذي كم تأجل كثيرا.. هنا.أحاول أن أمنح نفسي فرصة للتعرف على نفسي من خلال شخصيتين أدبيتين ألتقيمها في منطقة من الشمال.. لنقول كل شيء ولكن لمن يفهم ذلك البوح.. للبشر الحقيقيين.. من لديهم ريش طائر وتدافع موج وصوت البرد..
هنا أرتب لقاء غير حقيقي مع القاص المصري "شريف صالح" والشاعر السعودي الدكتور "عبدالله الوشمي".. فاللقاء خارج سطوة المكان ولكن البوح هنا شهي بكل ذلك القدر من الانفلات من المكان والوقوع تحت قبضة العزف على أوتار القلب.. هنا يأتيان بالغيوم ليلتقيا بامرأة تحمل قيثارة وتضع أساور من بوح عند تلك الأوبرا العائمة فوق بحرية زرقاء..
من الأفضل أن أبقى ضائعاً مني مثل «درويش» يغيب في رقصته
أحاول أن أغسلمازلت أكتشف في كل حين «جزراً» لم أزرها في داخلي
* كانت نافذة بيع التذاكر للدخول إلى دار أوبرا في سيدني في استراليا لحضور الحفل الموسيقي المقام مزدحمة جدا.. انتظرت دوري وأنا أنظر إلى الشاب الذي كان يبيع التذاكر وابتسامة مرتسمة على وجهه تليق بتلك الموسيقى.. أتقدم للنافذة بعد أن جاء دوري أقتطع ثلاث تذاكر.. بعد أن أختار مقاعد ثلاثة في آخر الصفوف في المدرج..
أتقدم نحو "شريف صالح" والدكتور عبدالله الوشمي.. وأرفع التذاكر وأعلق
* أخيرا.. حصلت عليها..
ندخل مدرج الاوبرا.. الحفل الموسيقي لم يبدأ بعد.. نقف قريبا من درجات النزول تلك والمليئة بمقاعد مرتبة بشكل دائري وكأنها ستسقط..
* عبير:
المكان مزحم.. كل شيء هنا محرض للقاء، أحب أن آتي إلى هنا كلما شعرت بأني بحاجة لأن ألتقي بنفسي، أو شخص ما يشبهني، هذه المدرجات المنفعلة والتي تبدو كأنها تدخل مغامرتها الأولى مع التوازن المكاني بشكل دائري ينحدر نحو الأسفل يذكرني بأشياء تسكنني كلما اقتربت من الزحام لمست الموسيقى فيها قلبي ووضعتني أمام مرآة لا تخطئ طريقها نحوي.
* شريف:
أظن أننا غرباء إلى الأبد، لأننا أبناء الصدفة.. مجرد صدفة أنني ولدتُ لأبوين فلاحين على أعتاب الشتاء.. ومجرد صدفة أن الممرضة التي جاءت لتسجيل ولادتي لم يُرق لها الاسم الذي اختاره أبي لي ففرضت عليه أن يسميني "شريف" وهو اسم لم يكن ذائعًا آنذاك. ولم يتح لي أن ألتقي تلك الممرضة على الإطلاق رغم أنها هي التي وسمتني باسمي إلى الأبد. إذن لم يتعب أهالينا في أسامينا كما تقول فيروز بل هي محض صدفة لا تنفصل عن هذا الشعور الأبدي بالاغتراب.. بأن أسماءنا قد لا تدل علينا.. وجوهنا في المرآة لا تقودنا إلى أرواحنا.. حتى أصواتنا حين نصغي إليها قد نستغربها.. وكلما اشتد حولي ضجيج الحياة شعرت أكثر بفداحة اغترابي وأن ذاتي تتدحرج من صدفة الميلاد إلى ألف صدفة تهبها لي الحياة.
قلبي في نهر أتخيله كي يتخلص من سوء الظن والفهم
الحياة ليست بروفة لذا علينا أن نتعايش مع الأخطاء حتى إن كانت تحني ظهورنا
عبير:
هل يعني ذلك بأنك لا تعرف نفسك حتى الان؟
شريف:
رغم افتتاني بمقولة سقراط "اعرف نفسك" أشعر أنها مستحيلة، فكيف نعرفها وهي من حال إلى حال؟! مساراتها هشة ما بين توهمات الرغبة والإرادة ومصادفات القدر. هل أنا ذلك الجسد الناحل، المنحني قليلًا أم أنا المقولات المتصارعة التي تسكنني؟ كل مكان تركته ورائي، تركتُ فيه جزءًا من روحي.. بدءاً من قريتي النائمة بالقرب من أمواج البحر المتوسط ومدرستي وأحياء عين شمس وفيصل وسيدنا الحسين.. وصولا إلى حولي في الكويت.. إنها الرحلة القدرية التي وسمتني، كما وسمني اسمي! وكثيرًا ما أشعر بالحنين إلى كل غرفة آوتني، كما أشعر بالرعب أن أذهب فلا أجد "شريف" الذي كان. فما جدوى أن نعيد السير على آثار أقدامنا؟ كأنني مسكون بالحنين وضد الحنين. ربما من الأفضل أن أبقى هكذا، ضائعًا مني.. مثل درويش يغيب في رقصته.
* يتناول عبدالله قارورة ماء وضعت على طاولة دائرية بشكل منظم، يدير مفتاح القارورة وهو يعلق:
أعتقد أنني رجل اكتشف بدون مقدمات أن عليه مسؤوليات كبيرة حين مات والده مبكرا، وحمَّله إرثا كبيراً هو السمعة الطيبة وحب الأدب والناس بأجناسهم، وأن أجد في داخلي صدًى للجميع، وأن يجدوا في دواخلهم بريقا طيباً من مسيرتي.
كنت في 12/5/1413ه أشعر أنني أنتظر العودة إلى ما أريد، وما زلت أتقلب في لحظات الأب وامتداداته، وأعقد نجاحاتي بحضوره، وتنتظر قصائدي قراءته وتعليقه، وأن يقوم بتوجيهي بعد أن يقرأ سورة الكهف والجزء الأول من البقرة مما اعتاد أن يقرأه، وأن أسمع وإياه وجدي معلقات العرب العشر بصوت الشيخ الحمين، وأن يعدني والدي بتعليقاته بعد أن يهجم جدي على معلقة طرفة ويشرح أبياتها رحمهما الله تعالى، ولكني وبدون أي مقدمات شعرت أنني انتقلت بسرعة البرق من الطفولة أو نهاياتها إلى الرجولة أو بداياتها، عندما فاجأني وجود جدي في بيتنا، وهو يستقبل القِبلة ثم يدعوني ليعزيني بأبي/ ابنه الكبير، ثم نذوب جميعا في بكاء صامت، وقد كنت وقتها أبكي المستقبل وكان جدي يبكي التاريخ!
الحب هو ما يوجز المطر في قطرة واحدة ويتعالى على الألم ليحتضنه
نحن شعب الكلام نتواطأ كي نتجنب الاعتراف
* يشرب من القارورة.. يغلقها مجددا.. ثم يقول:
لم يزل يهبط علي حلم العودة كل حين.
حتى جدي الذي بقي عندنا تسع ليال بعد وفاة أبي، وهو الذي يرفض أن يغادر منزله، كان مسكونا بعودة ما لم تتحقق إلى الآن؛ ثم إن جدي غادرنا إلى والدي، وبقيت أنتظر.
أشعر أنني رجل لا يملُّ من استعادة والده، وما زلت أحتفظ ببقاياه كما شاء لها أن تكون، وكأنني أترقب موعدا قادما معه لا أدري متى يحين؛ بل إنني أقول في إحدى قصائدي باتجاهه، متخيلا لحظة زيارته حيث يرقد:
تحت هذا الثرى
وأنا فوقه أنكسرْ.
هذه أرجلي؟!
أم جذوع الحنين إلى الأرضِ
حيث أبي ينتظرْ
وأقول
ما زلت أحبو في عباءاته
أخطُّ في أوراقه أحرفي
وما زلت أتعلم من أصدقائي، ورفاقي، وأكتشف كل حين جزراً لم أزرها في داخلي وفي الآخرين! وهي تدعوني وأعدها بالحضور القريب.
* ألتفت بكامل جسدي إلى المسرح وانا على قمة المدرج.. أهمس.
عبير:
اليوم أعترف.. أعترف بأنني كثيرا ما قسوت على نفسي، وأعترف بأنني كثيرا ما وضعت قلبي عند مهب الريح وحيدا، أعترف بأنني حتى بعد طول هذه التجربة مازلت صغيرة على الحياة.. وبأن الأحزان التي عشتها لم تكن كافية حتى تثني هذا القلب عن المغامرة من جديد..
أعترف بأنني خائفة.. وبأني مازلت أشتاق برغم كل تلك القسوة وذلك الظلم..
* ينظر إلي "شريف" بعمق.. ترتسم عليه ابتسامة خافتة.. يقول:
بالفعل "قلبي عند مهب الريح وحيدا" يؤدي رقصته عند كل تجربة. لكنه يتحسس من فداحة الاعتراف، فنحن ثقافة متخمة بالقول إلى حد الغرور، وأكبر مصنع في عالمنا العربي هو لإنتاج "كليشهات" الكلام. وأحسب أن ذلك كان تواطؤًا كي نتجنب شيئًا واحدًا.. هو الاعتراف.. إفشاء سر صغير يكشف هشاشة هذا البنيان اللغوي الهائل.. لا يهمني أبدًا رسم صورة متسامية لي، فلدي أسراري لكنها ستبقى حبيسة أدراج القلب.. تجنبًا لأذى قد لا يطالني وحدي.. ولعل أحد أهم دوافع الكتابة هو التنفيس عن ذلك المخبوء على الورق، بالكثير من التمويه.
أحب أن أغلق الأبواب بهدوء وأتركها دون حسم
مازال قلبي ينبض أعلى مما يجب ويتألم لقسوة الفقد
مشكلتنا الأساسية مع الحياة أنها ليست بروفة، فلا مجال لتصحيح الأخطاء بعد وقوعها. لذلك لا نملك إلا أن نتعايش معها حتى وإن كانت تحني ظهورنا.
لا يعني ذلك ألا نغامر، فأي حكمة قد نصل إليها دون أن نختبر النار والثلج؟ وأي أسرار للمرء ما لم يجرب متعة القفز فوق الأسوار؟! وإن كنتُ أحيانًا أسأل نفسي هل القيمة في تفاصيل السر المخفي أم في الحكمة المصفاة منه؟
* انظر إليه.. وأهمس "هل ذلك اعتراف"؟
شريف:
أعترف أن لدي أسرارًا عن أناس أعطيتُهم وقتي، فخانوا.. ولو عاد بي الزمن لأجبرت نفسي أن أكون أنانيًا أكثر، وأن أطبق شفتي أكثر.
أعترف أيضًا أنني بسبب طهرانية زائفة قسوتُ يومًا ما على جسدي ولم أعرف كيف أصغي إليه.
والآن قلبي حائر أكثر من كونه خائفًا. فقد منحتني الأيام التي لم أجد فيها كسرة خبز، عنادًا على الأحلام، وإصرارًا على المغامرة.. وأن أعيشها كما أشتهيها لا كما رُسمت لي.
عبدالله:
أما أنا.. فسأشير إلى القراءة، وأشير إلى البدايات الصغيرة، وهناك يتضح الاعتراف الجميل النقي، حيث أشير إلى أبي وجدي وجدٌّ أعلى رحمهم الله، وهم مهتمون وشعراء، ولئن كانت هذه الملامح تتحقق فيّ وفي إخوتي، فإنني الشاعر الوحيد من بينهم! وهو ما يمكن وصفه دون أن أدرك كنهه، إنها لحظات ما فوق الرصد والدراسة.
كنت أستمع إلى قصائد أبي، وأقرأ عليه ما أختاره، ويهديني ديوان أحمد شوقي، ويدفعني إلى قراءات أخرى، كما كنت أصحبه في جميع زياراته لنادي القصيم الأدبي، وأطرب لبعض الخطباء الأدباء، وأنتشي عندما أستمع إلى قصائد عدد من الشعراء الكبار، أو من كنت أراهم كبارا في ذلك الوقت، وكدت في لحظاتي الأدبية المتقدمة أن أحفظ شعر نزار وأمل دنقل وحافظ إبراهيم والبردوني وغازي وتاج الشعر (المعلقات)، إضافة إلى متقدمين كبار كنت أقرأ وأحفظ وأكتب على منوالهم، ثم اكتشفت خارطة الشعر العربي الحديث وأخلصت لها.
* يبتسم كمن عادت الذاكرة به إلى الوراء..
من البدايات اللطيفة التي أتذكرها جيدا أنني كتبت قصيدة جمعتُ فيها الفصيح بالعامي، وأنا في نهاية المرحلة الابتدائية، ثم كتبت قصائد مليئة بالأخطاء، ولكن من يستمع إليها كان أبي فقط بطبيعة الحال يستطيع أن يجد فيها بدايات الشعر، أو أن من يكتبها يوشك أن يكون شاعراً، ثم كتبت قصائد أخرى في سياقات اجتماعية بحتة.
ولكني أتذكر أن أولى قصائدي المتماسكة شعريا، قد ألقيتها في المرحلة الثانوية، وقد كنتُ في حالة شعرية عليا، وتفاجأت من الغد أن أبي كان قد ختم ساعات حياته الدنيوية حين كنتُ ألقي قصيدتي، وهو في علاجه في أمريكا! لقد كانت القصيدة رثاء صامتاً غير مرئي لتجربتي الشعرية المباشرة معه رحمه الله، أو أنها إعلان ولادة ما.
ومما أتذكره ما كنت أكتبه ونشرت بعضه نشرا خاصا من قصائد في أصدقائي البارزين في المرحلة الجامعية، وكانت أولى قصائدي في هذا السياق مديحا لأحدهم ممن تميز بالخط العربي الجميل، وقد نظمتها مجاراة لقصائد مماثلة، وكانت قصيدة الموسم الجامعي، حيث نشرتها مصرحا باسم الزميل الخطاط، ووظفت غرابة اسمه لخدمة هدف القصيدة، وظل يحفظها في محفظته إلى حين التخرج.
عبير:
تلك ذكريات جميلة – ياعبدالله – محرضة للبوح.. ربما لأنها تحمل الكثير من البهجة.. أمام المباهج نجرب أن نبوح و أمام الأوجاع نختار أن نصمت.. الصمت يطهرنا من اتساخ البعض، الصمت يمنحنا سلاما روحيا عاليا.. أظن بأننا من خلاله نقول ما لا يمكننا قوله إلا بالصمت..
عبدالله:
أنظر إلى الحياة بصفتها مخزنا للذكريات، أو هي مخزن للتجارب، وبطبيعة الحال تتعدد المواقف عندي وعند غيري، ولكني سألتقط موقفا أشعر بتفاصيله إلى الآن، وهو الموقف الذي رافق إعداد أحد أعمالي الأكاديمية، حيث ارتبكت بوصلة الموجِّه حين اختلط عليه الموقف العلمي بغيره من مواقف غير علمية، حتى صار الموقف (كما هو شأن أغلب طلاب الدراسات العليا ممن يحملون رأيهم الخاص ولا يذوبون في أساتذتهم) محلا للمزايدة على المبادئ والقيم.
شريف:
لا أظن أننا أُسرة تتمتع بفضيلة الصمت، فهي لاذعة في تهكمها وتصفية حساباتها عبر الحكي. لعل هذا أفادني ككاتب، لكنه أضرني كإنسان. لهذا السبب تمنيت لو تتاح لي فرصة البقاء صامتا في دير.. فالناس لا يريدون أن يخبرهم أحد بحقيقتهم. لا أحد سيتعاطف مع بوحنا.. وما كنا نحسبه صحيحاً في شبابنا الباكر بات اليوم هزليًا.. ربما هي حكمة الكهولة المبكرة! وربما هي فضيلة الصمت نكتسبها بعد فوات الأوان، فتدفعنا أن ندع كل حي لتجربته.. فمع الصمت، سنرى أنفسنا على نحو أعمق. لا حكمة ولا كتابة ولا تصالح مع الذات، ما لم ندرب أنفسنا على الصمت ولو بوضع حصاة تحت اللسان.
* نتجه نحو المدرج.. نجلس في مقاعدنا استعدادا لانطلاق الوصلة الموسيقية بعد دقائق.
عبير:
الموسيقى حديث روح.. هي ذلك الكلام الذي يقول كل شيء في لحظات، هي القول الذي لم نستطع يوما أن نقوله أو نعبر عنه، بها ننسحب إلى العمق فنعيش ذلك الانعتاق الشهي والسلام الكبير.
شريف:
نحن نسمع الموسيقى وهي تسمعنا في الوقت نفسه، تسمع قصصنا وألمنا وفرحنا.. نلامسها بكل حواسنا.. دون قوانين وإكراهات.. فهي سلام روحي منذ أن كنت أصغي إلى الراديو بجوار أمي لأكتشف أم كلثوم وعبد الوهاب.. ثم راح هذا السجل يمتد ويتسع للتراث الشامي والخليجي.. ثم يتسع لموسيقى الأندر جراوند وتجربة نجم والشيخ إمام بموازة رحمانينوف وموتسارت وفاجنر وأندريه ريو.. أترك الموسيقى تحيط بكل وجودي، أضبطها على مزاجي وتضبطني على مزاجها. ولو كان من حقي أمنية أخيرة ستكون تعلم العزف على آلة موسيقية.
عبدالله موجها حديثه لشريف:
أعلى درجات الموسيقى هي القصيدة الموقعة، والابتسامة الصادقة، والضحكة المفاجئة، والزحام الطفولي في المدارس، وحفلات الأسر الكبيرة، والصمت العميق باتجاه قرار ما. إن الموسيقى لحظة، وليس صوتاً فحسب.
* أنظر إلى سقف دار الاوبرا وأهمس..
عبير:
تحدثنا طويلا.. وغاب الحب..
ما الحب؟ وما الأشواق؟ وكيف يكون الألم فيهما؟
** يمسك "شريف" ذقنه بأصابعه كمن يجرب أن ينثر الزهور على البوح:
لدي ذلك اليقين بأن كل مآسينا في الحياة سببها نقص في فيتامين الحب. عندما نهين شخصا فنحن نخبره بطريقة سيئة أننا لا نحبه. حين نتحدث بإزدراء عن المختلفين معنا في اللون والمذهب.. فنحن نعلن كراهيتنا لهم.. وفي التحليل الأعمق نعلن كراهيتنا لذواتنا العاجزة عن الحب.. وما الرحمة والعطف والتسامح إلا ثلاثة ألف تجل للحب.. وما الشوق سوى طريق.. امتداد يقود قلوبنا إلى الحب في شتى تجلياته. وكل عائق يحول بيننا وبين تجليات الحب هو الألم بعينه... مارأيك يا عبدالله؟
عبدالله:
الحب هو ما يوجز المطر في قطرة واحدة، والأسرة في فتاة جميلة، والمدينة في مدرسة عابقة، والتاريخ في شخصية فذة.
الحب هو أن تنتهي لأي سبب وأنت تشعر أنك ما زلت في البداية، وما زالت لحظات الحياة بهية بالحب لكل مفرداتها الجميلة.
الحب هو الذي يتعالى على الألم حتى يحتضنه.
* تبدأ الفرقة الموسقية في الدخول إلى المسرح.. في محاولة لترتيب الادوات الموسيقية.. فيما نجوم تتلألأ على أرض المسرح من خلال إضاءة مشعة كنوع من التأثيرات..
* أمد اصبعي السبابة نحو المسرح في بهجة..
عبير:
نجوم على الأرض.. أنظرا...
* في محاولة للمشاكسة..
وأنا كذلك أمتلك النجوم.. في جيبي نجمة.. أقسمت بأن أمنحها لمن سيضحكني..
يضحك شريف ويقول:
لو كان لدي نجمة واحدة سأهديها لطفلي حنين وحسين فهما المرح كله.. كي تكون لهما رفيقة في درب الحياة، تذكرهما بي في الغياب. أما من منحوني نجومًا مازالت في جيبي فهم أكثر من أن أحصيهم.. لولاهم لما أبصرت قدمي الطريق.. هم أساتذتي في دار العلوم وأكاديمية الفنون..أساتذتي في الصحافة.. فكما يقال "من علمني حرفا صرت له عبدًا".. وأفضل أن أقولها: "من علمني حرفًا أهداني نجمة تضيء قلبي".
عبدالله معلقا:
يهمني في شؤوني الثقافية أن أظل مخلصا للفكرة بعيدا عن إيديولوجيتها، فالوردة العابقة لا تتعلق بتفاصيل الإناء، ومن هنا فقد استنزف مجتمعنا كثيرا من قواه الثقافية في دراسة الاتجاهات والرؤى والتصنيفات، وكان أجدى أن يتم تناول الأفكار نفسها ودراستها، وهذا سبَّب نزاعات سحبت ذيولها على مؤسساتنا وأفكارها وبرامجها، وهنا تتضح المشكلة.
شخصيا يهمني الإبداع، ففي مجال الشعر مثلاً أنا أقرأ من المعاصرين نزار قباني وأمل دنقل ولميعة ومحمد الثبيتي وعبدالرزاق عبدالواحد وشوقي وجاسم الصحيح ومحمود مفلح وأدونيس ومحمد بنيس وغيرهم، وتختلط لدي العصور والاتجاهات والأجيال، ولا أجد في مجال الشعرية مانعا أن أقرأ لهم كلهم، والإبداع سيد نفسه، وأجد أحيانا إن سؤال الأفكار والمرجعيات والإيديولوجيا يجعلنا نتجاوز الفن إلى المضامين، فنقدم المضمون على الفن، وهذا لا يصح في الأدب، لأن بوابته هي الإبداع أولاً.
* شريف يلتفت يمينا ويسارا.. يسأل:
إذا انتهى العرض.. من أي باب نخرج؟ يبدو أن الابواب كثيرة هنا..
**عبير:
علينا أن نختار الباب الذي سنخرج منه.. أن نكون نحن من يقول الكلمة الأخيرة.. وأن لا ننس أن نغلق الباب خلفنا حتى لا يبقى الجرح مفتوحا طويلا
* شريف.. مبتسما:
أظنني أملك قدرة لا بأس بها على مغادرة الأبواب دون ألم الوداع.. مؤلمة هي الأبواب التي غادرها الأحباب.. وعلى أية حال فإن الباب الذي أبقيه موارباً هو باب قريتي.. فهناك تكتمل دائرة: الميلاد والموت. ولو أتيحت لي الفرصة سأعود إلى مسقط الرأس، إلى رائحة أمي وأبي وعرق أجدادي. فهناك كنت أجري في الحقول حافي القدمين.. أستلقي تحت أشجار الكافور والصفصاف وأراقب رقص السمك في النهر. آنذاك لم يكن هناك حاجة لساعة في يدي والشمس كلها أمامي.. لا نعرف الأحذية ولا ربطات العنق.. هناك كانت الروح حرة تمامًا، بسيطة تمامًا.. أما ما جرى لي بعد ذلك فهو ضريبة مرعبة لتمدن زائف، استعباد هائل تحت رحمة الباصات وثرثرة شاشات التلفزيون وتعاليم الأطباء وطوابير الشقاء الإنساني. فليس أسوأ لإنسان كان يملك كل الوقت من أن يجد عمره مبددًا وفقًا لاستثمارات باعة الحليب ومهندسي الشقق وأصحاب ورش السيارات ومحال الملابس وأولئك الذين يبيعون لنا كل ما لا نحتاج إليه مقابل تقسيط أعمارنا لهم.
عبدالله:
أنا مولع بالإغلاق الهادئ للأبواب، وأن أتركها مجافاة دون حسم، فربما كانت هناك خطوات خير قادمة باتجاهنا ولم نشعر.
* ألف معطفي حول جسدي كمن يشعر بالبرد..
شريف:
هل الأجواء باردة إلى هذا الحد؟
عبير:
كلا.. كل ماهنالك بأن تحت قميصي "قلب" أحاول أن أحميه من الفقد..
وماذا عنك؟
* شريف:
مازال قلبي ينبض أعلى مما يجب.. مازال يتألم لقسوة الفقد.. وكل مساء أبذل كل طاقتي لغسل قلبي في نهر أتخيله، كي يتخفف مما يعلق به من حسد وظنون وأوهام وسوء فهم وسوء نية.. ربما تحت القميص إنسان تعذب بالحياة حبًا وكرهًا.. عاشها حائرًا لا يدري أين المستقر! هذا الكائن المختبىء وراء القميص يسعى بلا كلل للعبور إلى ال(هناك) بسلام.. رهانه الوحيد: نية طيبة ورب غفور.
ولو كان لي أن اختزل كياني وقمصاني وذكرياتي وأوهامي وأخطائي، لاختزلت ذاتي في تغريدة عصفور دوري تحت شمس الشتاء.
* يهمس عبدالله مرددا..
وبرزتُ ليس سوى القميص
عن الحشا شيء دفوع
* تكتمل الفرقة الموسيقية فوق المسرح.. تخفت الأنوار في المكان سوى من المسرح.. تنطلق الأوبرا في تصاعد إلى الأفق.. يسود بداخلنا صمت الحنين.. ندخل في ذلك الالتباس الشهي بين حقيقة مكاننا فوق المقاعد وبين مكان حلقنا إليه لنصغي إلى حياة خلف الحياة.. هناك حيث شمال القلب وقلب آخر مازال يرتعش بردا تحت القميص..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.