لا شك أنهم أبناؤنا.. وفئة عزيزة على قلوبنا.. هذا ما تمليه علينا تعاليم الإسلام الحنيف.. هم بشر مثلنا.. لهم ما لنا وعليهم ما علينا في وطننا العزيز.. عزاؤهم في اهتمام ورعاية ولاة الأمر، ورجالات الخير والبر.. ومصابُهم في (بعض) أهاليهم القساة الجفاة.. إذ لكل قاعدة شواذ.. وإن كانت القاعدة لدينا هي التراحم والتعاطف.. فإن النبذ والإهمال من شواذ تلك القاعدة.. فلآلامهم نقف احتراما.. ولسعادتهم نسعى قدما. عندما تستمع لتلك الحكايات التي تروى عنهم.. تعتقد أن خيال بعضهم وصل مداه في الإبداع والاختراع.. لدرجة مكَّنتهم من حبْك تلك القصص (شبه المستحيلة).. وإتقانها لدرجة تجعل من ذلك (الراوي) مبدعا مؤهلا للدخول إلى عالم كتاب الروايات ال.. (هوليوودية) الشهيرة. وتلك هي مهنة الصحافة التي تبدأ بالشك.. لتبحث.. تتحرى.. تسأل.. تستقصي.. لتصل في النهاية إلى النبأ اليقين. لكن حصيلة رحلتي القصيرة إلى عالم المعوقين لم تكن ككل رحلة في عالم الصحافة.. فقد خرجت منها بكم هائل من التساؤلات.. لم أحصل لأي منها على إجابة.. وحيث لكل معوق حكاية.. ولكل حكاية بداية ليس لها نهاية. فلنبدأ مع “شمس” الحكاية من البداية.
ضيفُ الله لم تكن الحالة النفسية لسالم جيدة، وهو يتنهد متذكرا أخاه المتوفى ضيف الله (متوفى عن عمر 24 سنة)، الذي كان يعاني إعاقات عدة: شلل كامل – تخلف عقلي شديد – اضطرابات شديدة بالنطق والكلام.. كان الدمع في عينَي سالم يشق طريقه عبر مقلتيه لينهمر على وجنتيه، وهو يتذكر شقيقه الأكبر ضيف الله.. ذلك الأخ الذي كان مستلقيا طيلة ربع قرن تقريبا على ظهره على أرضية صالة المنزل. لا شك أنني في موقف لا أحسد عليه الآن، لكنني أحاول التخفيف عن سالم، مذكرا إياه بقضاء الله وقدره، ليجيبني بألم: “أعلم أنه قضاء الله وقدره، لكننا ظلمناه” يقصد شقيقه الراحل ضيف الله!. هكذا يعتقد سالم أن شقيقه ظلم بسبب إهمال الأهل له، وإلغائه من قائمة العائلة، حتى بات والده يكنى ب”أبي سالم”، على الرغم من أن ضيف الله هو الأكبر.. وكان لا يزال حيا يرزق! ثقافة الإعاقة كان الشعور بالذنب مسيطرا على لهجة سالم، الذي حدثني عن “ثقافة الإعاقة”، وعن الجهل بها في ذلك الوقت (قبل 15 سنة).. الأمر الذي جعل والده يهمل أخاه المعوق بتلك الطريقة. سألته عن والدته وعن معاملتها لضيف الله؟.. أجابني بلا تردد: “كانت تحبه وترحمه”. لم أفاجأ بحديثه، وهو يبلغني أنها “أمية”.. لكن الغريب في الأمر أن والده من خريجي الجامعات!، ويحمل بكالوريوسا في العلوم الاجتماعية؟! نايف يعاني أما (نايف) فلم يكن أحسن حظا من ضيف الله، حتى وإن كان يسكن في دار لرعاية المعوقين.. فإن كانت المنية قد أراحت (ضيف الله) من ظلم الأهلين، ونقلته إلى رحمة الله سبحانه وتعالى.. فإن (نايف) لا يزال حيا، يعاني نكران الأهل وجحودهم. لم أكن أتصور ذلك الذي يحدث، بينما أحد أبناء عمومته يروي لي حكايته.. لا يعلم ما هي إعاقته.. لكنه على يقين بأن أهله جميعا (والديه وإخوته) غير راضين بوجوده بينهم! “أو ليس ابنهم؟!”..هكذا قلت بانفعال، ليجيبني ابن عم نايف: “إنهم يخشون كلام الناس”!.. ويضيف: “تصور أن عائلة تتخلى عن ابنها والدولة تعترف به؟!.. صدقني لو كان هذا المعوق في بلد آخر لمات منذ زمن”. في هذه الأثناء لم أجد غير الصمت لألزمه، متأملا تلك الجملة الأخيرة.. نعم: ماذا سيكون من أمرهم إن كانوا في بلاد أخرى يا ترى؟! البحث عن البشر وأنا في سيارتي متجه إلى المقهى، حيث ينتظرني (عبدالله)، جاءني اتصال من أحد الأصدقاء.. كان يتحدث عن أمر خاص فيما بيننا، لأقاطعه متسائلا: “لو كان لديك أخ معوق، هل كنت ستتبرأ منه؟! “.. لا أعلم لماذا سألته هذا السؤال.. لكنني كنت على يقين بأنني الآن في رحلة بحث عن (البشر).. صمت صديقي برهة.. ليرد على سؤالي متعجبا: “سؤالك غريب؟!”.. أصررت على سماع إجابته.. ليثبت لي إن كان سؤالي ذاك لا يُسأل. فمنذ متى يتبرأ الأخ من أخيه.. حتى إن كان من أسوأ الإخوة؟!.. فما بالنا بأخ معوق؟!.. لا شك أن هذا الصديق لم يستمع لحكاية (ضيف الله ونايف).. وإلا لأدرك أنه من خيرة الناس.. أو على الأقل أدرك أنه لا يزال من فئة “البشر ذوي القلوب الرحيمة”.. ينتهي الاتصال بيننا.. بينما أواصل سعيي الحثيث نحو ذلك المقهى، حيث (عبدالله). أو ليست أختي؟ بداية.. لاحظ عبدالله الاستياء على وجهي وهو يستقبلني.. بادرني بالسؤال: “خير إن شاء الله؟! “.. ابتسمت وأنا أجيبه: “لا يوجد إلا الخير بإذن الله”.. دقائق من الصمت قطعها نادل المقهى وهو يقدم لي قهوتي المفضلة.. بدأت الحديث مع عبدالله: “أعلم أن لديك أختا معوقة.. فهل تنال حقوقها كاملة في منزلكم وبين أفراد عائلتكم؟”. لاحظت الاستياء على محيا عبدالله.. أجابني مستغربا السؤال: “أو ليست أختي؟!.. ما هذا السؤال؟!.. بالتأكيد تنال حقوقها كاملة”. شرحت لعبدالله الأسباب التي جعلتني أطرح مثل هذا السؤال عليه.. حكيت له ما قابلني من مواقف قبل لقائي معه.. استنكر عبدالله المعاملات التي عومل بها كل من “ضيف الله ونايف”.. أكد عبدالله أنها حالات شاذة لا يمكن تعميمها على مجتمع كالمجتمع السعودي؛ صاحب الدين والخلق القويم. شفاء صدري كان لقائي بعبدالله كفيلا بشفاء صدري مما اعتمل به من آلام بسبب ما لاقاه ضيف الله ونايف من قسوة الأهلين وجفائهم وإهمالهم.. كان لقاء جيدا بلا شك.. فمن كان مثلي، وسمع بما سمعت قبل لقائي به، لا بد أن يشعر بأن حديث عبدالله معي، لم يكن مجرد حديث عابر بالنسبة إلي. كان شعلة أعادت الروح إلى شمعة الإنسانية من جديد.. بعد أن كدت أوقن أنها ذهبت في ظلام سحيق إلى غير رجعة. عدت إلى المكتب بمادتي عن تلك الفئة الغالية علينا.. كانت لدي قناعة تامة بأنهم معوقون.. لكن ما لم أكن أتوقعه أنني اكتشفت أن هناك في المجتمع من هو أكثر إعاقة من هؤلاء... أولئك الذين تجردوا من قيم التراحم والتعاطف والتكافل في وطن الإسلام.