منذ تشكُّل المجتمعات الإنسانية، ظلّت الصداقة إحدى أعمق وأعقد العلاقات التي ننسجها، ومع تعدد أنماط الصداقة وأشكالها، بقي السؤال: هل تنشأ علاقة الصداقة بين الأشخاص وتتوثق عراها، نتيجة التشابه بينهم؟ أم أن الاختلاف والتكامل هما ما يشكل الرابط الأرسخ؟ وهل تنجح الصداقة أكثر حين يكون الصديقان نسخة من بعضهما؟ أم حينما يمثل كلٌ منهما عالماً مختلفاً؟ تشير الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن التشابه هو العامل الأول في بناء العلاقات، بالذات خلال مراحلها المبكرة. لأن الإنسان بطبعه يميل إلى من يشبهه، سواء في القيم أو الاهتمامات أو حتى الخلفية الاجتماعية. وهو ما نلاحظه في محيط الجامعة مثلاً، إذ تجد الطلبة يتقاربون بناءً على تخصصهم الدراسي، أو اهتمامهم وميولهم، ذلك لأن تتوفر هذه القواسم المشتركة، يبني الثقة ويعزز الارتياح، وبالتالي تتقارب الأرواح، ويشعر الطرفان بالألفة والمحبة، فتسهل الأحاديث، وتتشارك الأحداث، وتتراكم الذكريات. دعونا نعرج على مثال شهير لصديقين قريبين من بعضهما، تشابها في نظرتهما إلى العالم والحياة الريفية، وهما الأديبان الروسيان "تولستوي" و"تشيخوف"، فرغم اختلاف أسلوبهما في الكتابة، إلا أن كلاهما يحمل هماً إنسانياً عميقاً، ويكتب من منطلق أخلاقي وفلسفي، وهناك أيضاً "ستيف جوبز" و"ستيف زنياك" الصديقان المتشابهان، اللذان نجحا في تأسيس العملاق "أبل"، نظراً للانسجام الفكري بينهما. في المقابل، هناك نوع من الصداقة لا يقل إشراقاً ونجاحاً، ذلكم الذي يعتمد على الاختلاف البنّاء، فيمسي التكامل هو مفتاح العلاقة، فأحدهما هادئ ومتأمل، بينما الآخر صاخب ومبادر! أحدهما يميل للعقل، والثاني يتبع قلبه، وهكذا، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى وكأنه دوامة متكررة لخلاف دائم، لكنه في الحقيقة أرضٌ خصبة للنمو، ومساحة للانطلاق، كل طرف يُخرج صاحبة من منطقة راحته، يحفز ويثري الآخر، ويدفعه لاكتشاف جوانب جديدة من شخصيته، ومن أمثلة ذلكم النوع من الصداقة: العلاقة التي ربطت بين المناضل "نيلسون مانديلا" ورفيق دربه "ديزموند توتو". فمانديلا رجل سياسة وتغيير، وتوتو رجل دين ومصالحة، ورغم اختلافهما، إلا أن الصداقة بينهما ظلت وثيقة، لأنها قامت وحدة الهدف، والتكامل في الأدوار، إلى الصداقة الوثيقة التي جمعت بين الروائيين "إرنست همنغواي" و"فرنسيس فيتسجيرالد"، فالأول واقعي، ومحب للحياة الصاخبة، والثاني مثاليٌ ورومانسي! أعتقد أن ما يُرجّح استمرار علاقة صداقة ليس وجود التشابه أو التنافر بحد ذاته، بل وجود أرض مشتركة لقيم أعمق، مثل القبول والمحبة والاحترام والاستماع، فالصديق الشبيه يوفر لك الطمأنينة، لكن المختلف قد يكون نافذتك إلى عوالم جديدة، وكلاهما أساسيان لرفقة رحلة الحياة. عزيزي.. فكر في أصدقائك: من منهم يشبهك؟ ومن منهم يختلف عنك؟ لكنه يُكملك؟ النجاح يكمن في قدرتك على جمع هذا التنوع من حولك، فالصداقة كما الطبيعة، لا تزدهر إلا حين تتنوع ألوانها، وتتناغم عناصرها.