تعاني الثقافة من صراع الوسائل والوسائط، وهجوم المحتوى الفوضوي فيتجه المثقف إلى مساحات هو لا يريدها في حدود معاييره لكن التأثير شديد جداً، فمن يتخلف يتم إقصاؤه من المشهد ويستبدل بمساقات وشخوص ورؤى محدثة، لذا خشي البعض من العزلة فحاول اللحاق بركب أمواج ثقافة الرعونة الصوتية.. الامتلاء باليقين يضعنا أمام حاجاتنا الثقافية الخاصة بهدوء واقتدار وفي طور التحولات المرتبكة، وتدفق مضامين عشوائية عبر وسائط ساخنة تعاني حالة التثقيف، والتثقف مناخ متلبد بالدهشة والصدمات، فيعيش أحدنا الباحث عن التجديد والتحديث لأبنية المجتمع والثقافة في حالة موت الوقوف فهو يقبع بين مرحلتين متناقضتين، بين محتوى سائل من الغرائب ومجتمع متفاعل بالرغائب، مما يقود إلى تعايش يومي مع أنساق حياة متقلبة يمتد فيها ذهن هذا الباحث عن الثقافة في مساحة من تصحر الوعي، ويبقى معلقاً بين حاجاته الثقافية، وتفاعلاته الجبرية. ونعني هنا ذلك المثقف الذي يرغب في الوصول لوعي ناتج من امتلاك هذه المعرفة ويعمل على بناء الوعي للتأثير المعرفي الإيجابي في المجتمع، فيقوم بصناعة هوية فكرية له ثم يبدأ باشتغالات متعددة، منها تحصيل المخرجات الثقافية وتداولها معنوياً وعملياً، وبث الخلاصات الواعية والمضيئة لممارسة الفعل الاجتماعي الصحيح. الواقع اليوم يقول إن المثقف التقليدي -إن جاز التعبير- أصبح معزولاً، ويذكرنا بما قاله هيغل: (إن المثقف يحمل عقلاً شقياً نتيجة الفصام الفادح بين المثال الذي ينشده والواقع الزائف الذي يحاصره)؛ لأن شكل الثقافة الجديدة صنعت من واقع اتصالي وواصلي مرتبك سمح لمدخلات غير مألوفة، وتغذية متشابكة أثرت في مفهوم المثقف نفسه ونظرته للأنساق الثقافية وحدودها المعتادة. في الحاضر تعاني الثقافة من صراع الوسائل والوسائط، وهجوم المحتوى الفوضوي فيتجه المثقف إلى مساحات هو لا يريدها في حدود معاييره لكن التأثير شديد جداً، فمن يتخلف يتم إقصاؤه من المشهد ويستبدل بمساقات وشخوص ورؤى محدثة، لذا خشي البعض من العزلة فحاول اللحاق بركب أمواج ثقافة الرعونة الصوتية فكان اضمحلال الأنا وذوبانها في فضاءات التنازل. وحتى معنى المثقف في قالبه التقليدي بدأ منشطراً ومنزوياً في أبعاد مختلة، حيث المعنى الجديد يطفو على الساحة المؤثرة في اتجاهات الفرد، وباتت محددات الثقافة التقليدية محبوسة في أطر مفاهيمية وسلوكية مفروضة لكنها ليست مرغوبة من المثقف التقليدي. يتبادر سؤال، هل يمكن أن تصبح مثقفاً؟ وهل تعرف حقيقة ومعنى الثقافة؟ ستجد تياراً غريباً يرى أن الذي يملك وسيلة تواصل، أو وسيط اتصال يمكن أن يكون مثقفاً حتى لو كان مفرغاً من المحتوى لأن البعد الجديد لمفهوم المثقف هو كثافة الوصول إلى الآخر وتقبله.. لكن يثار السؤال الأكبر، هل يصعب عليك أن تكون مثقفاً في حال عدم وجود وسيلة أو وسيط؟ اتجاه مريب عندما تربط الثقافة بامتلاك الوسيلة المؤثرة فقط، وماذا عن المضمون، هل هو في الأساس يمكّنه من إيجاد مثقف أم أن المضامين هي نفسها ممزوجة بإملاءات فارغة، وبامتلاءات تافهة تعمل على تشكيل ذهنية ثقافية متحولة من مقاييس مبتورة. حقيقة الأمر، واقعنا الثقافي اليوم أجده غامضاً بفقدانه العناصر والمكونات التقليدية التي اعتدناها، وتبدل الحال إلى تشكلات حديثة في الشكل والمحتوى، حيث إن الميل إلى تحفيز التداخل المعرفي والزخم المعلوماتي في ذهنية المتلقي رسم محددات طارئة، وآفاقاً متسعة تم تركيبها من السلوك الفردي لدى الكثير الذين اندفعوا عبر وسائلهم ووسائطه الذاتية إلى محاولة صناعة الثقافة الجديدة وطبيعة المثقف الحديث، فتم تأطير المتلقي بقوالب ما يراه خلال تلك الوسائط والوسائل من محتوى وأطروحات. الكل يشاهد هذا التدفق الكثيف الذي يوهم بأنه نفحات ثقافية في ظاهرها ولكن هي في باطنها مضامين ممزوجة بالفاعلية التواصلية أكثر من أنها مضامين ثقافية حقيقية ذات مقاييس راسخة. ويبقى القول: هل تستطيع اليوم أن تصبح مثقفاً لمعرفتك بحقيقة وعمق وقيمة الثقافة أم ارتكاءً على محتوى طارئ تنشره عبر وسيلة تواصلية، أو وسيط اتصالي ليتم تصنيفك مثقفاً؟ وهل انتهى زمن المثقف التقليدي الذي يحدث أطيافاً من التنوير عبر مضامين عميقة مصقولة بالسلوك؟ هل الثقافة اليوم هي شذرات فنية، أو أدبية، أو تراثية فقط بلا تنشيط للفعل الاجتماعي الثقافي، وتأثير فكري معتبر.. لننتظر ونشاهد ونسمع..