تلاشي النخبة الثقافية وتواري الأدباء وظهور المجموعات التعبوية والشعبية من خلال وسائل التواصل، وتلك نتيجة بدهية لإتاحة النشر وفتح أبواب القول للمستخدمين التقنيين، دون استثناء أو إجازة أو رقابة، وذلك يفسر شهرة أشخاص لا يقدّمون أيّ محتوى معرفي، أو إبداعي أو إنساني، مما جعل هؤلاء -بوصفهم أفرادًا فقط- يتفوقون في الحضور والشهرة على المثقفين.. بعض الأمنيات تلوذ بالفرار من أمام الزمن، وباقي الحلم يتكسر على صفا التعب.. بسيط ذاك الرجل المثقف وحكايته يحملها على ظهره بلا سواعد، يمشي وكأن لا أرجل له يتحرك بها تخونه قدماه فهو لا يعبر شيئاً ولكن الزمن يعبره.. قد يجد نفسه في لحظة تشبه الإغماءة، فيكون من فرط الشعور بعزلته، غارق في ذاته التقليدية، كأنما ما حوله في فسحة بلا نهاية، وكأن قدرته على التصالح لا حدود لها، حقيقة الأمر لم تكن الحياة في قاموسه مرة واحدة، بل مرات متعددة، وكل لحظة في مضمونها تشكل له حياة جديدة، تنقله من شعور إلى آخر، علاقته بها حين يتطلب الأمرّ. كان كلما أحب أن يرى العالم، أغمض عينيه، ثم فتحها ليتجول بصره فيكتشف أشياء جمّة تبهره، قد يكون لا يعرف كيف يستخرجها بشكل دائم، لكنه يدرك بأنها الرغبة للتقدم التي تدفعه، كان يحب أن يصمد شاهقاً وثابتاً، والشجرة تحزنه؛ لأنها لا تستطيع أن تنحني، إنه نوعٌ من الخسارة أن تكون واقفاً إلى هذا الحد، الحد الذي لا يجعلك تنحني لالتقاط حظٍ سقط منك. الحكاية تبدأ من حالة المثقف اليوم في مأزق وسائل التواصل التي قد يراها الجميع سهلة ومتوافرة في يد كل شخص فيدركون أهمية هذا النمط الجديد من التواصل في خدمة أغراضه الحياتية والاتصال مع الآخرين في زمن باتت فيه الوسائل التقليدية بطيئة، معقدة، أو مكلفة في كثير من الأحيان خصوصاً في مجتمع تقليدي متحرك حيث تعتمد وسائل التواصل التقليدية على الحس الفطري للأفراد وعلى تعاملهم واتصالهم المباشر ببعضهم بعضاً، وعلى إظهار نوع من التقارب المطلوب مع الآخرين، لكن الواقع الملموس أصبحت وسائل التواصل بديلاً لكل حالة يمكن أن يعيشها الرجل المثقف. من يتابع ببصيرة الواقع الثقافي والأدبي قد يجد أن مكوناته متنافرة ومتناثرة في قطعها فالواقع التواصلي يملأ خلايا المجتمع بكافة ألوانه وبالذات الجزء المرتبط بالمثقف والثقافة والأدب.. حيرة كبيرة تشعرك أن الزمن يتجاوز الحالة الثقافية باتجاه مساقات جديدة لا يعرف أحد هويتها، ويكون المثقف والأديب هو الحلقة الأضعف فيها، فهو يتسكع في طرقات التهميش التواصلي مذهولاً من واقعه الجديد الذي يحد من انطلاقته نحو الإنتاج، والكتابة، والقراءة، والتداول المعرفي. هل المثقف يعاني التهميش خاصة بين الأجيال الجديدة الوسائل والمستخدمين أم أن المرحلة سريعة عليه تجعله يعيش البطء القاتل بسبب المتغيرات المتسارعة، والمستجدات الهائلة التي جعلت المثقف في صدام معنوي وذاتي مع الوسيلة والاستخدام وردود الفعل وتفهم المتغير الجديد. كمثقفين لقد وضعتنا وسائل التواصل تحت الاختبار، وأخضعتها لتجارب قاسية خرجت منها وسائل التواصل الجديدة منتصرة بحكم انحياز الأجيال الجديدة لها، وبحكم قدرتها الهائلة على التواصل السريع وغير المكلف مع الآخرين. فلا غرو أن تنحاز لها ليس الأجيال الشابة فقط، بل غير الشابة أيضاً والمقدرة لقيمة الوقت وسرعة إيصال المعلومة مما ساهم في موت معنى الثقافة التقليدي، وسمة المثقف الطبيعي الذي كان يجد فضاءات كبيرة ينطلق فيها ورقياً وصحفياً.. فأمسى اليوم مكبلاً بواقع مغتص بأبعاد قد تحرق أشياء كبيرة من معاني الثقافة والأدب فتتشكل مفاهيم متحولة مرتبط بالسلوك الاتصالي الذي يعيشه الكثير ممن يتطلعون إلى ثقافة تقليدية لكن في وعاء وشكل وأسلوب جديد. أعود للمثقف الذي أضحى يشعر بتواضع وفقر حضوره وتأثيره السابق، وندرة المتابعة له، وقلة التفاعل معه، وهجرانه إلى محتوى مختلف يشعر بغرابته.. ويرى أن من حوله يتأخر عنه دوماً ولا يشعر في مقامه الذي يستحقه.. ذات محمّلة بالأنا القديمة جعلت المثقف التقليدي بليداً في فهمه للخطاب الثقافي الجديد ووسائل الإيصال الحقيقية، واتباع السلوك الاتصالي المفيد للوصول إلى الآخر ومازال عنفوان الورق يغطي على وعي المثقف التقليدي بخدعة الاستمرار دون انتباه أن سمات المتواصلين، وخصائص وسائل التواصل مختلفة ومتعددة وغريبة. الواقع اليوم مؤكد أنه مستباح، حيث اختفى المثقف التقليدي النرجسي وظهرت منتجات نثرية يضعها أصحابها في قلائد الأدب والثقافة مزاحمة لكل الفرص الممكنة في الانتشار. تلاشي النخبة الثقافية وتواري الأدباء وظهور المجموعات التعبوية والشعبية من خلال وسائل التواصل، وتلك نتيجة بدهية لإتاحة النشر وفتح أبواب القول للمستخدمين التقنيين، دون استثناء أو إجازة أو رقابة، وذلك يفسر شهرة أشخاص لا يقدّمون أيّ محتوى معرفي، أو إبداعي أو إنساني، مما جعل هؤلاء -بوصفهم أفرادًا فقط- يتفوقون في الحضور والشهرة على المثقفين، وأرى أن على المثقفين استيعاب هذا الواقع، استيعابًا يحول بينهم، والتأميل في أن تكون الوسائل التقنية التواصلية بديلة للكتاب الورقي، ولعل الوعي بهذا التحول من النخبوي إلى الشعبي، سبب من أسباب عزوف بعض المثقفين المعروفين عن وسائل التواصل. الإحساس بالتلاشي هو من "أزمة المثقف خصوصاً عندما تتمثل في العزلة التي يعيشها بعيداً عن مجتمعه واستخدامه لمصطلحات لا يفهمها المجتمع الجديد الغارق في الفلاشات والحركات الصورية والأصوات فلا تجعل خطابه مؤثراً ولا يشكل أي تغيير، والتطور السريع في المعلومات والكم المعرفي الهائل الذي جعل المثقف يحاول جاهداً مستغلاً وقته لمواكبة هذا التطور الفكري مما جعله ينفصل عن واقعه ويكون أقل ارتباطاً بمشكلات مجتمعه، واجتماع منابر النخب المثقفة في أماكن بعيدة عن المجتمع بغرض عرض معلوماتهم بعيداً عن محاولة تطبيقها أو حتى عرضها على المجتمع، وأكثر العناصر تأثيراً هو استغلال السلطة لبعض المثقفين مما جعل أفراد المجتمع تفقد الثقة في هذه الفئة بشكل مطلق. السبب الآخر: وهو أزمة المجتمع، المجتمع نفسه لا يدرك واقعه الحقيقي، فأصبح فاقداً لهويته وذاته وغير مدرك لحجمه الحقيقي، وذلك يحدث بسبب الصراعات الداخلية على مستويات عدة، فعلى المستوى السيكولوجي أو النفسي نجد مثالاً واضحاً في حاجة المجتمع لبساطة ويقين المعرفة بينما المثقفون مشككون، وبالتالي يتجه المجتمع لفئة من المثقفين الزائفين والذين يقدمون معرفة زائفة يعتمد عليها المجتمع وتتجه به نحو الهاوية.". يأتي دور عناصر المجتمع من الفئة المثقفة والفاعلة بأن تبدأ عملها بشكل أعمق من مجرد خطابات وكتابات بجعل أفراد المجتمع تعي أولاً وجودها من خلال معرفة الذات وتحديد كينونتها وذلك بتحليل الصراعات التي يعاني منها، وإيجاد حلول فعلية. ويبقى القول: الإشكالية ليست في الإنتاج الأدبي والثقافي التقليدي، لكن يبقى الإشكال في وضع هذا المنتج واختيار المنصة والوعاء الملائم للمحتوى، وهنا تكمن إشكالية المثقف الذي ارتبط بقيود التقليدية السابقة ويريد إمضاءها بطريقته الخاصة مواجهاً تيارات التدفق التواصلي وهذا ما سيجعله معزولاً، لذا لا بد على المثقف ألا يتوارى بعقله وقلبه وإنتاجه محبطاً بسبب الواقع الجديد بل عليه التفاعل والتعاطي بمنتجع الجميل باستخدام أوعية التواصلية الحديثة فلا يصير مهجوراً.