شخصيتنا من أوائل السعوديين الذين سوّقوا للكتاب المستعمل قبل عدة عقود، فمنذ بواكير شبابه وهو يجمع هذه الكتب القديمة والصحف المحلية والعربية، وله خبرة بالكتب النادرة وتواريخ طباعتها، وهذا راجع إلى كثرة أسفاره وتنقلاته في داخل المملكة وفي الخليج العربي والدول العربية، بل الأوروبية والآسيوية فهو رحالة، لهذا كانت هذه السفرات رافدة له في جلب واقتناء الكتب والجرائد والمجلات، وهو مرجع في هذا الميدان، وفي هذه السطور نتعرف على شخصيتنا وهو الأديب الباحث الكتبي الرحالة محمد بن عبدالله الحمدان، الذي عرفته لأول مرة عندما زرته في مكتبة "قيس" الواقعة في "حي البديعة" على شارع سليمان بن مشرف، فكانت هذه المكتبة التراثية مصدرًا غنياً للباحثين والهواة والقراء. محمد الحمدان من الروّاد في تسويق الكتاب المستعمل والصحف القديمة والمجلات، بل كان يقتني كل ما يتعلق بالقديم الشعبي في نجد، وما يستعمله الناس -آنذاك- سواء في البيت، أو في الفلاحة، وغير ذلك من الأدوات الأثرية القديمة، ولديه متحف منزلي. زرته في إحدى المرات في مكتبة "قيس" وأهداني كتابه التحفة (الفرسان الثلاثة) ومعها ورقات قد كتبها عن الشاعر المشهور "الهزاني"، وبعدها انتقلت مكتبته في شارع أبي بكر الصديق حيث منزله الجديد، ثم بعد ذلك في منزل آخر بحي التعاون، وزرته في هذا المنزل قبل عدة سنوات، كان لا يبخل على زائريه بالمعلومة، وحتى أحياناً بتصوير بعض الكتب القديمة التي لم تطبع إلاّ طبعه أولى، وقد صور لي أكثر من كتاب كرمًا منه ونبلًا. ولمّا كان الحمدان له عناية بالمتحف الشعبي، أدى هذا الاهتمام إلى أن يكون من رواة الشعر الشعبي، والذين كتبوا فيه مؤلفات، ويتحرى الدقة في ضبط الرواية، وذلك ظاهر في كتابه الممتع (ديوان السامري والهجيني) الذي طبع أربع طبعات، وكان مصدراً ومرجعاً لفن السامري والهجيني، وكتابه الآخر (ديوان حميدان الشويعر)، الذي يعد من أوائل الدواوين التي حشدت قصائد هذا الشاعر الحكيم. ابن البير ومحمد بن عبدالله الحمدان من مواليد بلدة البير، والتي أحبها، بل هي دائماً في وجدانه وشعوره، وحقا نقول إنه ابن البير البار، كتب عنها عدة مقالات منذ وقت مبكر في مجلة العرب، ثم أعقب ذلك بكتاب زاخر بالفوائد التاريخية والقصص التراثية عبر سلسلة هذه بلادنا، تعلم في بلدته القرآن الكريم ومبادئ القراءة والكتابة، وهو من بيت علم، فوالده وجده من طلبة العلم المدركين، درس الابتدائية ثم انضم إلى معهد إمام الدعوة بالرياض، وبعدها كلية الشريعة، ثم اتجه إلى الوظائف الحكومية آنذاك، وتوفي والده عبدالله وكان عمره تسعة أعوام، ووالدته توفيت وعمره عامين. درس محمد الحمدان الابتدائية في تمير وكان جدّه عبدالرحمن الحمدان إمام جامع تمير، فدرس وتعلم بهذه المدرسة النظامية، ومن تلك الذكريات التي لازالت منقوشة في ذاكرة شخصيتنا أن مدير مدرسة تمير ابن عليق كان يعقد مناظرات بين التلاميذ لتدريبهم على الخطابة والارتجال، فكان إن عقد مناظرة بين السيف والقلم، وكلّف مدير المدرسة شخصيتنا حكماً في هذه المناظرة مدرسة تمير. مستشار ثقافي وتخرج محمد الحمدان من معهد إمام الدعوة عام 1379ه، بعد ذلك درس بكلية الشريعة سنتين، ثم ترك الدراسة انتظاماً، وعُيّن في إحدى الوظائف وانتسب في كلية الشريعة وتخرج منها، حيث تعيّن في أول وظيفة له في إدارة المعاهد والكليات في قسم الامتحانات ناسخاً للأسئلة، ثم بعد مدة تعين بالديوان الملكي في قسم البرقيات، ثم كانت الوظيفة التالية في مكتب العمل وهو إدارة لفض النزاعات بين العامل وصاحب العمل، وكان الحمدان لم ترق له هذه الأجواء، ثم عُين في قسم البرقيات بالديوان الملكي، ثم استقر على وظيفة في إمارة الرياض للشؤون المالية، وفي عام 1400ه طلب التقاعد المبكر، وبعد ستة أعوام أصبح مستشاراً ثقافياً لأمير منطقة الرياض حتى عام 1415ه، وهذه مجمل الحياة الوظيفية له. مكتبة قيس وروى محمد الحمدان في النبذة التي كتبها في سيرته أن من أهم الأسباب التي جعلته يقدّم على التقاعد المبكر حتى يتفرغ لجمع الكتب القديمة والصحف والمجلات والدوريات، وكانت هذه هواية له منذ بواكير عمره وامتلأ منزله بهذه الكتب، فاقترحت عليه زوجته أن يؤسس مكتبة لتسويق هذه الكتب، واقتنع بهذه الفكرة مع أن جمعه لهذه الدوريات والكتب لم يكن للبيع والتسويق، ومن ذلك الاقتناع أسّس مكتبة، وبدأ في تحقيق هذه الفكرة إلى أرض الواقع والميدان، واطلق عليها مكتبة «قيس» على اسم أحد أنجاله؛ ولأن الاسم مميز اختار وانتقى هذا الاسم وعرف شخصيتنا بصاحب مكتبة قيس. رصد وجمع وكانت مكتبة «قيس» كما ذكر محمد الحمدان في سيرته، تحتوي على الكثير من المجلات القديمة مثل الرسالة المصرية، والثقافة، والمقتطف، والفكاهة، والبعكوكة، والسياسة الأسبوعية، والبلاغ الأسبوعي، والكشكول، والمقتبس، وجريدة العرب، ومجلة المعهد المصري الصادرة في مدريد بدولة أسبانيا، أما الدوريات المحلية والصحف والمجلات فقد احتوت مكتبة «قيس» صحيفة صوت الحجاز، وصحيفة القبلة، وصحيفة قريش، ومجلة الجزيرة، وراية الإسلام والأضواء، وكما قلت أن شخصيتنا يعد من الرواد في رصد وجمع الدوريات والصحف المحلية والعربية، إضافةً إلى اقتناء المخطوطات، ويوجد لدى الحمدان في مكتبة «قيس» صحف عربية كانت تصدر في أمريكا وفي أوروبا، ومن نوادر الكتب التاريخية التي انفردت بها مكتبته أن جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أقامت مؤتمراً عن الملك عبدالعزيز وكذلك جامعة الملك سعود أقامت معرضاً للكتب عن تاريخ الملك عبدالعزيز، وكان لدى مكتبة «قيس» عشرة كتب ليست لدى الجامعتين، وعرضت هذه الكتب في الجامعتين باسم مكتبة قيس. مصدر الباحثين وأصبحت مكتبة «قيس» بعد انتشارها واحتوائها على الكتب القديمة والمخطوطات والصحف والدوريات مصدراً ومرجعاً للباحثين والهواة من القراء وعاشقي النوادر من الكتب والصحف، وعرفت هذه المكتبة في مدينة الرياض بالعصر الذهبي للكتاب الورقي، ومحمد الحمدان من هؤلاء الأوائل الذين بذلوا جهداً واضحاً في هذا العالم، عالم الكتب القديمة وعرضها للبيع، لهذا كان ذو خبرة بالكتب وتاريخ طباعتها وأين طبعت؟، وكان له عناية فائقة بكتب الشعر والتراث الشعبي، وهو مؤلف في الأدب الشعبي، ومكتبة قيس زاخرة بكتب الأدب الشعبي، وكانت ثمرة هذا الاقتناء هو المعجم المطبوع، وهو يضم دواوين وكتب الأدب الشعبي الذي صدر قبل عدة سنوات، ولعله أول معجم يصدر عن كتب الأدب الشعبي، وقد كتبت عنه في صحيفة الرياض في حينه، وهي مقالة نقدية حول الكتاب، ولو أضاف إلى هذا المطبوع المخطوط في الشعر الشعبي لكان أحسن، مع أن المخطوط ليس كثير، لكن من باب الفائدة، وشخصيتنا لديه معرفة بالمخطوط الشعبي مثل مخطوط محمد بن يحيي لباب الأفكار في غرائب الأشجار، ومخطوطات عبدالرحمن الربيعي والصويغ، ومخطوطة المستشرق هوبر، فهذه المخطوطات هي الأصل لأكثر المطبوع من الشعر الشعبي القديم، ولهم فضل السبق في هذا التدوين الذي لولا جهودهم لضاع الكثير من الشعر الشعبي، والحمدان لا يغيب عنه هذا الأمر المهم. قلم وكتابة ومحمد الحمدان من الأوائل الذين كتبوا وشاركوا بأقلامهم في صحف الأفراد أيام عصرها الذهبي المزدهر مثل صحيفة القصيم، وراية الإسلام، ومجلة الجزيرة، وصحيفة اليمامة، وروى في نبذته أنه لما أصبحت الصحف مؤسسات كان قد اشترك مع الأديب الرائد عبدالله بن خميس في مؤسسة الجزيرة الصحفية، وأصبح عضواً فيها، بل وأصبح فيما بعد من كتاب صحيفة الجزيرة، وقبلها كان قد كتب في مجلة الجزيرة، ولم ينقطع عن هذه الصحيفة، بل كان يكتب ويطرح آرائه في الأدب والفكر، وكانت له زواية اسمها «دبابيس»، وهو عنوان لاقت للنظر، فكان يطرح في هذه الزواية بعض الملاحظات الاجتماعية أو المظاهر السلبية، وكان كما يقول في نبذته فيها شئ من القسوة، وقد جمع مقالات ونشرها في جزئين بعنوان (من أجل بلدي)، وقد شارك بقلمه في صحيفة عكاظ ومجلة الفيصل والعربية واليمامة، ومما عرفته عن شخصيتنا أنه قليل الكلام إلاّ فيما يراه مفيداً ونافعاً في أي جلسة حضرها، ولا يتصدر المجالس كما يفعل البعض، ولا يمنع الجالسين من المشاركة في الحديث، وكانت اتصالاتي به كثيراً عبر الهاتف، خاصةً عندما كان يعد الطبعة الرابعة لديوان (السامري والهيجيني)، حيث كنت أزوده ببعض الإضافات في اسم قائل لهذه القصيدة، أو ذكر مرجع، وكان يتقبل ذلك بكل أريحية وسرور، وحينما نشر الطبعة الرابعة أهداني نسختين، ومن أمانته ودقته أنه ذكر ما ذكرته له من بعض الإضافات، باسمي، مع إنني أعد نفسي أحد تلاميذه في ميدان الأدب الشعبي، وكانت النسخة الثانية مهداة إلى القاضي سابقاً والأديب حمد الحقيل -رحمه الله-. جدّه والمؤسس وكما ذكرت أن محمد الحمدان كان من بيت علم وفضل، فكان جدّه عبدالرحمن بن علي الحمدان من طلبة العلم، حيث طلب العلم في الرياض، وعُين إماماً في بلدة تربة، لكن ذلك كما يقول شخصيتنا شقّ على جدّه لظروف خاصة، قائلاً: فذهب لأحد المشايخ وطلب مساعدته ليعفيه الملك عبدالعزيز -رحمه الله- من هذه الوظيفة لظروفه، فكتب له الشيخ رسالة للملك فوجده يتهجّد آخر الليل في خيمة، وعندما همّ بالدخول عليه منعه الحارس فوقف حتى انتهت الصلاة فأمره الملك بالدخول فقّدم له الرسالة وقرأها الملك على «السراج» فوضعها جانباً واستمر في صلاته، فقال الشيخ لجدي: اعتبر الموضوع مقبولاً بهذا التصرف، عندئذ عينه الملك عبدالعزيز إماماً وخطيباً لهجرة «رويغب» التابعة لمحافظة ثادق، والواقعة في حضن جبل العرمة الجنوبية عام 1337ه، وفي عام 1360ه، تم نقل جدي -والكلام لمحمد الحمدان- ليكون إماماً وخطيباً لجامع بلدة «تمير»، واستمر في هذا، كما تعيّن مدرساً بالمدرسة الحكومية التي افتتحت عام 1371ه حتى توفي عام 1376ه. بيع السجادة وتابع محمد الحمدان حديثه: والدي عبدالله بن عبدالرحمن الحمدان -رحمه الله- طلب العلم في الرياض على بعض المشايخ، وكان تقياً ورعاً قارئاً للقرآن الكريم، حصلت له مواقف بطولية في «البير» و»رويغب»، وأخبرني عمي عبدالعزيز -كان يطلب العلم في الرياض معه ثم انقطع عن ذلك- أخبرني أن أبي أشترى سجادة -زولية- لينام عليها، فلم يستيقظ لصلاة الفجر، وفاته قيامه الليل، فبادر ببيعها من الغد، كان يشرع في قراءة القرآن الكريم بصوت مسموع في مجلس والده حين يبدأ ضيوفه بالحديث غير المفيد، توفي والده وهو في ريعان الشباب بعد مرض في رأسه. هذه خلاصة سيرة الأديب الكتبي محمد الحمدان، الشكر له على إرسال هذه النبذة، والشكر موصول لماجد بن محمد الحمدان -نجل شخصيتنا- الذي زوّدنا بالصور والسيرة. .. وهنا في شبابه الحمدان من أوائل كتّاب الصُحف متحف الحمدان ضم كل ما هو قديم وشعبي وما يستعمله الناس في الماضي مكتبة محمد الحمدان أصبحت مرجعًا للباحثين والقرّاء إعداد- صلاح الزامل