في تطور مثير للجدل، أعرب الملياردير إيلون ماسك الذي يقود وزارة كفاءة الحكومة، والمسؤول الأول عن خفض التكاليف الفيدرالية في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، عن تأييده لدعوات انسحاب الولاياتالمتحدة من منظمة الأممالمتحدة، ويتزامن إعلان ماسك مع جهود قوية يقودها نواب جمهوريون في الكونغرس الأميركي للدفع بهذا المسار، وقد عبر ماسك عن موقفه من خلال مشاركته منشور على منصة (إكس)، كتبه في الأساس المؤثر الأميركي الشهير غانثر إيغلمان، والذي غرد قائلاً: "إن الوقت قد حان للولايات المتحدة لأن تتخذ قرار الانسحاب من حلف شمال الأطلسي ومن الأممالمتحدة"، وعلق ماسك بعبارة "أنا أوافق". تتزامن رؤية ماسك مع دعوات جمهورية متزايدة لإقرار هذا التوجه في الكونغرس، من خلال إعادة النظر في التزامات واشنطن تجاه الأممالمتحدة وغيرها من التحالفات الدولية، وفي هذا الإطار، قدم السيناتور الجمهوري مايك لي، وهو إحدى الشخصيات البارزة في إدارة ترمب، مبادرة إلى مجلس الشيوخ خلال شهر يناير الماضي، تؤيد خروج الولاياتالمتحدة من الأممالمتحدة والمنظمات المرتبطة بها، وإيقاف تمويلها، وهكذا، فإن موقف ماسك يتناغم مع النمط العام السائد بين الجمهوريين عموماً، حيث شهدت الأشهر الأولى من رئاسة ترمب تقويض أجزاء رئيسة من النظام العالمي متعدد الأقطاب، فالولاياتالمتحدة ترفض الاعتراف بالمحكمة الجنائية الدولية، وخفضت إسهاماتها في المساعدات الخارجية، وانسحبت من منظمة الصحة العالمية، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، ووكالة الإغاثة الفلسطينية الأونروا. تعكس نزعة الهيمنة الواضحة لدى ترمب، والنهج التفاوضي القاسي الذي أظهره مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي تجاهلًا للدبلوماسية التعاونية القائمة على الإجماع، مما يعني أنه على استعداد للتخلي عن الأممالمتحدة، كما أن مساعي خفض العجز الفيدرالي، في ظل دين سيادي يقدر بنحو 36 تريليون دولار، يتوافق مع التخلي العام عن الالتزامات الدولية باهظة الثمن، والأممالمتحدة ضمن هذه الالتزامات، وإذا واصلت إدارة ترمب استراتيجية تصنيع الأزمات لتعزيز أجندة "أميركا أولاً" عبر فرض الرسوم التجارية والانسحاب من المنظمات الدولية، فإن الانسحاب من الأممالمتحدة بالكامل قد يصبح الخطوة المنطقية التالية. مركزية الأممالمتحدة يتناقض هذا التوجه بشكل صارخ مع الدور المركزي الذي لعبته الأممالمتحدة تقليديا في النظام الدولي، الذي تقوده الولاياتالمتحدة منذ عام 1945، وتاريخياً، سمحت الأممالمتحدة للولايات المتحدة بتشكيل النظام الدولي على صورتها ونشر قيمها ومصالحها المحلية في مختلف أنحاء العالم، وإلى جانب حلف شمال الأطلسي، صُممت الأممالمتحدة كمؤسسة أمنية عالمية تهدف إلى إنتاج الاستقرار العالمي، ومن الناحية النظرية، مكنت القيم السياسية والاقتصادية للولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات من بناء النظام بعد الحرب العالمية الثانية، ووفقاً لعالم السياسة الأميركي جون إيكينبيري، فقد استند هذا النظام إلى "التعددية، والشراكات التحالفية، وضبط النفس الاستراتيجي، والأمن التعاوني، والعلاقات المؤسسية والقائمة على القواعد". بحلول القرن الحادي والعشرين، بدت تصرفات الولاياتالمتحدة سبباً في تقويض العديد من مبادئ الأممالمتحدة، فقد تجاوز الغزو الذي قادته الولاياتالمتحدة للعراق في عام 2003 سلطة الأممالمتحدة، الأمر الذي دفع الأمين العام آنذاك كوفي عنان إلى إعلان أن "الغزو كان غير قانوني من وجهة نظر الميثاق"، وأدى ذلك إلى تقويض شرعية الأممالمتحدة ومكانة أميركا داخلها، وقلص دور المنظمة كقوة كبيرة في الحفاظ على الأمن الدولي والسيادة الوطنية في الشؤون العالمية، وأدت انتهاكات حقوق الإنسان اللاحقة التي ارتكبتها الولاياتالمتحدة من خلال استخدامها لعمليات التسليم والتعذيب والاحتجاز في مرافق مثل خليج غوانتانامو وسجن أبو غريب إلى إضعاف مصداقية الأممالمتحدة باعتبارها حامية للقيم الدولية الليبرالية. الولاياتالمتحدة ضد الأممالمتحدة لا تدفع الولاياتالمتحدة رسوم الأممالمتحدة بانتظام، إذ بلغت ديونها 2.8 مليار دولار في أوائل عام 2025، وهي واحدة من أقل الدول إسهاما في الأفراد العسكريين وأفراد الشرطة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، رغم أنها تدفع قرابة 27 % من الميزانية الإجمالية، وباعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، لا يمكن تجاهل فشل الولاياتالمتحدة الطويل الأمد في سداد مستحقاتها للأمم المتحدة، وبالنسبة لقوة عظمى قادرة على إنفاق مليارات الدولارات لدعم الحروب، فإن مبلغ 2.8 مليار دولار المستحق للأمم المتحدة يبدو رقمًا تافهًا. تضعف المتأخرات الأميركية دور الأممالمتحدة، لأن عمليات الأممالمتحدة تعتمد بشكل كبير على عائدات الاشتراكات، ويعيق التمويل غير الكافي قدرة المنظمة على تقديم المساعدات الإنسانية وعمليات حفظ السلام وغيرها من الأجندات العالمية بشكل فعال، ويعد سداد الاشتراكات في الوقت المناسب إحدى أهم المسؤوليات الأساسية للدول الأعضاء، وتعتبر الضائقة المالية مشكلة مزمنة للأمم المتحدة، فالولاياتالمتحدة لا تدفع الاشتراك إلا عندما تحتاج إلى دعم الأممالمتحدة، كما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر عندما سددت الولاياتالمتحدة مدفوعاتها، وفي الوقت الحالي، يتأخر الاشتراك الأميركي إلى أجل غير مسمى، حيث تنظر الولاياتالمتحدة إلى هذه الإسهام داخل الأممالمتحدة كرافعة، ولهذا، تستخدم المتأخرات كأداة ضغط لإجبار الأممالمتحدة على التوافق بشكل أكبر مع مواقفها ومصالحها الدولية. ومع تأخرها في سداد ميزانية الأممالمتحدة، تقدم الولاياتالمتحدة مرة أخرى مثالاً سلبياً على القيادة الدولية، وبرأي المؤيدين للأمم المتحدة والتحالفات الدولية بشكل عام، فإن تراجع نفوذ الأممالمتحدة يؤدي إلى تعريض السلام والأمن الدوليين للخطر على نطاق أوسع، كما أن غياب الأممالمتحدة يفاقم من حالة عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث في الشئون العالمية، وقد يصبح العالم مكاناً أكثر خطورة، وبالنسبة للدول الكبيرة والصغيرة، فإن غياب الأممالمتحدة يعني فرض حسابات استراتيجية جديدة وخلق تحالفات وتكتلات جديدة،مع انزلاق العالم إلى المجهول. منذ تسعينيات القرن العشرين، طالب العديد من الساسة الجمهوريين بانسحاب الولاياتالمتحدة بالكامل من الأممالمتحدة، وفي عام 1997، قدم السيناتور رون بول قانون استعادة السيادة الأميركية، الذي يهدف إلى إنهاء العضوية في الأممالمتحدة، وطرد مقر الأممالمتحدة من نيويورك، وإنهاءالتمويل الأميركي، ورغم أن القانون لم يحظ إلا بدعم ضئيل ولم يصل قط إلى جلسات الاستماع في اللجان، فقد أعاد بول تقديمه في كل دورة من دورات الكونغرس حتى تقاعده في عام2011، ثم تبنى هذا القانون جمهوريون آخرون، بما في ذلك بول براون ومايك روجرز، وفي ديسمبر 2023، قاد السيناتور مايك لي والنائب تشيب روي تقديم "قانون الانسحاب الكامل من كارثة الأممالمتحدة (DEFUND)"،وبرر روي القانون بما يعتقد أنه معاملة سلبية ملحوظة لإسرائيل، والترويج للصين، وانتشار الهستيريا المناخية، والمدفوعات السنوية البالغة 12.5 مليار دولار، أما زميله السيناتورمايك لي فبرر القانون بأنه "تم توجيه دولارات الأميركيين التي حصلوا عليها بشق الأنفس إلى مبادرات تتعارض مع القيم الأميركية. علاوة على ذلك، أظهرت استطلاعات الرأي الأميركية في عام 2024 أن 52 % فقط من الأميركيين لديهم وجهة نظر إيجابية تجاه الأممالمتحدة، والواقع، أن هذه المعارضة الشعبية لها جذور تاريخية أعمق، ففي عام 1920، عرقل الانعزاليون الأميركيون التصديق على معاهدة فرساي، وبالتالي مشاركة الولاياتالمتحدة في عصبة الأمم (التي سبقت الأممالمتحدة)، ورغم أن الولاياتالمتحدة ظلت تتفاعل مع عصبة الأمم حتى تأسيس الأممالمتحدة في عام 1945، فإنها لم تصبح عضواً رسمياً فيها، من جهة أخرى، تتخذ الانتقادات الموجهة للأمم المتحدة أيضًا زاوية غير حزبية، فقد قررت الولاياتالمتحدة سحب تمويل الأونروا في عام 2024 خلال رئاسة جوبايدن. هل يفعلها ترمب؟ إذا استغل ترمب هذه الخلفيات التاريخية والتوجهات الجارية على قدم وساق في الكونغرس الأميركي، وقرر الانسحاب بالفعل من الأممالمتحدة، فمن المحتمل جداً أن يؤدي ذلك إلى تقويض ركيزة أساسية للنظام العالمي الحالي بشكل لا رجعة فيه، وهذا الأمر سيزيد بلا شك من عزلة الولاياتالمتحدة، ويحد من النفوذ الغربي، ويضفي شرعية على الهيئات الأمنية البديلة، ومن بين هذه الهيئات منظمة شنغهاي للتعاون، والتي تأسست في عام 1996 من قبل الصينوروسيا وقيرغيزستان وطاجيكستان وكازاخستان بهدف بناء الثقة المتبادلة بين الدول الأعضاء، ونزع السلاح في المناطق الحدودية، وتشجيع التعاون الإقليمي تحت مسمى "خمسة شنغهاي"، وهذه المنظمة قد تنضم إليها الولاياتالمتحدة، خاصة وأن روسيا والهند عضوان فيها.