في «منفوحة» أحد الأحياء الشعبية في العاصمة الرياض، تختلط روائح القهوة المرة بعبق تاريخها، وتتشابك الحكايات في الأزقة، كما تتشابك الأسلاك الكهربائية على الجدران الطينية، حيث تدور أحداث مسلسل «شارع الأعشى» الذي لا يروي مجرد قصة، بل نسيج حياة متكاملة داخل حيّ ينبض بالحياة. الأحياء القديمة، بالعادة بمبانيها المتراصة وسكانها المتقاربين، هي عالم قائم بذاته، عالم يرفض أن يتغير رغم محاولات الزمن أن يفرض إيقاعه الجديد. هنا.. في هذا الشارع، تبدو الحياة وكأنها توقفت عند لحظة معينة، حيث «الجيران» يعرفون بعضهم أكثر مما يعرفون أنفسهم، وحيث الأخبار تنتقل أسرع من سيارات الأجرة الصفراء التي تشق الطريق الضيق بصعوبة. وسط هذا المشهد، تتجلى القيم والتقاليد كحارسِ قديم، يراقب كل حركة، يحكم على كل تصرف، ويقرر مصائر من يعيشون في ظله. الحب هنا ليس كما هو في الروايات، بل هو معركة بين المشاعر والواجبات، بين الرغبة في التحرر والخوف من كسر القيود غير المكتوبة التي تحكم الحياة اليومية. وفي كل بيت، قصة تُروى بصوت خافت خلف الأبواب المغلقة، حيث الأحلام تصطدم بالواقع، وحيث الأمل يتسلل كخيط نور عبر النوافذ الخشبية المتهالكة. «شارع الأعشى» لا يكتفي بأن يكون مرآة لهذا الحي، بل هو مرآة للمدينة كاملة، يغوص في تفاصيله الدقيقة، حيث الباعة ينادون على بضاعتهم في الصباح الباكر، والمقاهي الصغيرة تجمع الرجال في جلسات لا تنتهي، يراقبون فيها الزمن وهو يمر، كما لو أن مرور الزمن هو الحدث الوحيد الذي لا يثير الفضول. النساء من شرفات المنازل ينسجن شبكة من الحكايات، يتبادلن الأسرار والهموم، ويبحثن عن لحظة هدوء وسط زخم الحياة اليومية. هذه العوالم المتماسكة، رغم تقاربها، ليست مثالية. فهناك انقسامات خفية، خطوط غير مرئية تحدد من يُسمح له بالحلم ومن يُفرض عليه القبول بالواقع كما هو. هناك من يحاول تجاوز هذه الحدود، ومن يدفع الثمن غالياً لمجرد أنه أراد أن يكون مختلفاً. ومن هنا تنطلق حكاية «شارع الأعشى»، فالتقاليد تتحول إلى سجن، والرغبة في التغيير، تصطدم بجدران صلبة لا تهتز بسهولة. المسلسل ينجح في رسم لوحة اجتماعية معقدة، حيث التفاصيل الصغيرة تحمل معاني كبيرة، والشخصيات ليست مجرد أدوات للحبكة، بل كائنات حية تتنفس، تخطئ، تحلم، وتواجه مصائر صعبة. ما يجعلها مختلفة ليس فقط في القصة، بل الطريقة التي يحكي بها بهدوء أحياناً، وبعنف تارةً أخرى، لكنه دائماً صادق في تصويره لعالم يعرفه الكثيرون، لكنه لم يُروَ بهذه الطريقة من قبل. في النهاية، «شارع الأعشى» ليس مجرد مكان، بل هو كيان، يراقب من يعيشون فيه، يختبر صبرهم، ويمتحن شجاعتهم. البعض يجد فيه الأمان، والبعض الآخر يشعر بأنه محاصر. لكنه، في كل الأحوال، يظل شاهداً على أحلامٍ لم تتحقق، وقراراتٍ لم يُسمح لها أن تُتخذ، وقصصٍ ربما لم تنتهِ بعد.