في مؤتمر صحافي عقد في نابولي المركز الثقافي الفرنسي قدّم أدونيس نصّه المسرحي الذي كتبه عن نابولي، بطلبٍ من إدارة مهرجان المسرح الدولي فيها، لكي يعرض في السنة المقبلة . تنشر"الحياة"هنا خلاصة لكلمته، وخلاصة لمداخلة السيدة ماريا دونتزيللي، الأستاذة في جامعة نابولي. كما تنشر أيضاً مقاطع مختارة المشهدان الثالث والخامس من هذا النص وهو بعنوان:"أشجار تتكئ على الضوء". وقد ترجمته الى الإيطالية السيدة فرانشيسكا كوراو، الأستاذة في جامعة نابولي، وصدر عن دار النشر الإيطالية الشهيرة"فيلترينيلّي". طقسٌ يتحدر من ليل الأزمنة في قراءة أي نصٍ من نصوص أدونيس ما يثير دائماً انفعالاتٍ قوية، وما يبعث في الوقت نفسه على التأمل العميق الكثيف. فشعره يساعدنا على القيام بقفزة نوعية في المعيش من أبعادنا الإنسانية، ويساعدنا على السمو بأنفسنا، والقبض على الجليل الرفيع في واقعنا المتشابك المعقد، والعبثي غالباً، والذي يكشف عنه الشعر موقظاً المخيلة والدهشة. يحمل الجليل الرفيع شكلاً من الواقع يستنطق أعماقنا مزلزلاً ما تنطوي عليه، مجدداً شعورنا بأننا موجودون في هذا العالم. كما لوأن ما هو خارج الزمن، ينبثق فجأة متجسداً في الزمن: آنذاك تترنح حواسنا، وتبدو ذاتيتنا كأنها في لحظة معلقة ? تنفلت من التعايش مع الآخر، وتنكسر فيها مرآة التمثيل، وتدهش، وتلمح السرّ، وعمق الكلام الذي يولّد لذّة خاطفة وأليمة يتعذر تخيلها وإدراكها. لكن، ما الجليل الرفيع؟ قد يكون الطبيعة: المحيط، الصحراء، السماء. قد يكون طقساً يتحدر من ليل الأزمنة. قد يكون موسيقى تنفذ الى أقاصي الروح. قد يكون فكرة فلسفية تجرؤ على الذهاب الى الأصول وبلوغ أقصى الأشياء. إنه الشعر الذي تحيا فيه الكلمات. وخاصيته الأساسية هي انه لا يجمد أبداً، فهو صيرورة متواصلة تقتضي التحول المتواصل. تنبثق تجربة الجليل الرفيع، خصوصاً في مراحل الأزمة، عندما يُحال دون أن تتحقق بعض القيم، أو عندما يشعر الكائن البشري باتضاعه، بفعل تقدم معرفي يتمرد على نفسه، أو يشعر أنه خاضع لسلطة تسلبه أي شكل من أشكال الحرية. ويفرض علينا الجليل الرفيع أن نعيد التفكير في العلاقات بين النظرية والممارسة. وهو، خلافاً للجميل والخير، يبدو أنه لا يقدر أن يخدم الإبداع والعمل، غير أنه يفترض دائماً مشاهداً ملتزماً، مهيأ لأن يعيشه بوصفه تجربة. والنتيجة هي في الواقع صدمة يتغذى منها الإبداع، ويتغذى كذلك الجليل الرفيع. إنها العلاقة التي لا تنفصل بين المبدع والمتلقي، بين الشاعر وقارئه، أو كمثل ما يقول فيكو VICO في كتابه"العلم الجديد"1744:"عمل الشعر، الأكثر جلالاً ورفعة هو أن يُعطي للأشياء معنى وهياماً لا تمتلكهما". عندما جاء أدونيس الى نابولي في شباط 2008 لكي يكتب النص الذي نقدمه اليوم، التقيته وتحدثنا طويلاً عن هذا الجليل الرفيع الذي يسمّى نابولي: الواقع الفاتن والذي يتعذر فهمه حيث الحب والموت يرقصان في كل زاوية، في كل وجه، في كل نظرة. تحدثنا طويلاً عن تناقضات هذه المدينة، عن طاقتها على"الاستقبال"رغم كل شيء، عن طبقات الثقافة فيها، عن إمكانية كل فرد للتعرف على نفسه فيها، خصوصاً بالنسبة الى مواطني البحر المتوسط. إنني أرى أصداء هذا الحديث في ما يقوله أدونيس:"عرفتني نابولي من رائحة الزيتون بين أصابع يدي. من برتقال عصرته الحقول على ثيابي. عرفتني من جرحٍ مقدسٍ في جسدي كمثل هلالٍ يضع قدماً في الضفة الشرقية من المتوسط، وقدماً في الضفة الغربية". نابولي والمتوسط: موضوع آخر كُتب عنه كثيراً غير أنه لم يُفهم حق الفهم ولم يعش في غناه الحيوي وفي عمقه الأليم. في لقائنا هذا، تحدثنا كذلك عن الحيوية الخارقة التي يتميز بها المفكرون والفلاسفة والكتّاب والشعراء الذين ولدوا في نابولي أو عاشوا فيها، أو اختاروها مقاماً لهم لا بوصفهم أجانب، بل بوصفهم يقيمون بينهم وبينها مسافة اختلاف، لكن في حوارٍ دائم، مأساوي غالباً، ومغنٍ دائماً. تحدثنا عن فيكو، وكروتشه، وفرانشيسكو دوسانكتيس، والأخوين سيلفيو وبرتراندو سبافينتا، وأنطونيو لا بريولا، وعن جيوردانو برونو أيضاً، ومصيره في تجربة الحريّة حتى الموت، وعن فيرجيل وليوباردي. لبعض هؤلاء الأشخاص دور في نص أدونيس. لكن لا يتحدث أي منهم عن نفسه. إنهم مجرد استدعاء أو استحضار للإبداع الفكري وللكلام الذي عرفت هذه المدينة أن تنطق به. يطيب لي الظن بأن أدونيس أخذ مكان كل منهم في أثناء حديثنا وأنهم أوحوا له الصورة التي رسمها لنابولي:"مرصد للامرئي. عبرها يسكن الشرق والغرب في جسدي". هنا يكمن التماهي العميق بين أدونيس والمدينة. لجميع الأشخاص الذين يقومون بأدوار في هذا النص علاقات مع الدفعة الخلاقة التي يمثلها الشعر، لأنهم مارسوه، كمثل برونو، أو لأنهم أكدوا على استقلاله المعرفي ? الحكمة الشعرية عند فيكو، والفن بوصفه شكلاً للمعرفة عند كروتشه، أو لأنهم كانوا يؤمنون بمثل جليلة رفيعة ترجموها الى أعمالٍ، كمثل ما تسانييلو، وغاريبالدي، غير أنهم جميعاً ارتقوا الى مستوى الجراح والظلمات في هذه المدينة التي تذكر بجنون الجحيم عند دانتي. لقد ترك أدونيس لمشكلات هذه المدينة وجراحها أن تنفذ الى أعماقه وتعيش فيها، بكل ما فيها من حداثة وعنف، ومن حزنٍ ينقلب غالباً الى ضحك وسخرية ... وصولاً الى حربها الأهلية الصامتة، زاحفة في شوارعها. ... إنه نص يحرّضنا على التفكير، دافعاً إيانا الى السير في اتجاه الجليل الرفيع، مستخدماً طرقاً وأشكالاً معرفية تقودنا الى أن نرفع رؤوسنا، ونحيي أمواج فجر جديد. ترجمة وتلخيص فابيولا طعمه المسرح بوصفه سؤالاً خلاصة الكلمة التي ألقاها أدونيس: 1- أردت أن أنظرَ الى نابولي بعين الشعر، لكي أزحزحَ أكثر فأكثر تخوم المسرح في اتجاه شعرية تنصهر فيها الأزمنة، وذلك من أجل أن أفتح للمخيلة أبواباً أخرى يتحرر فيها الواقع مما يعتقله، سواء كان دينياً أو اجتماعياً أو سياسياً. فالمدن مسارح حية، لا بمعنى الخشبة الساكنة والعرض المتحرك في الزمان والمكان، بل بمعنى اللقاء والتفاعل والتشابك، والحوار بين إيقاعات الماضي والحاضر والمستقبل، الميت والحي، المرئي واللامرئي، الواقع والتاريخ. الغموض، الغيب، اللاشيء، الصمت، المجهول: هذه كلها يمكن، هنا، أن تبدو كأنها هي نفسها شخصيات مسرحية. فهي جميعاً تبث المعنى الذي تمثله المدينة الحية، المعنى الذي يفتتح المستقبل. 2- في هذا الأفق يبدو النص مسكوناً بأشباح وظلال تجاور الأشخاص الحقيقيين، مسكوناً بأصداء قديمة، بطاقاتٍ وأمواجٍ خفية، بحقائق حميمة تختبئ في أعماق كل منا. 3- يتم هذا كله في مناخٍ من الاحتفاء الأخويّ الإنساني، داخل واقع أليف يبدو أن ما يدور فيه ليس إلا مجرد مظهر وذلك بفعل الشعر الذي يُعلّمنا كيف نخلق الحياة بدءاً من لا شيء، لكي نعرف أن نحيا حقاً. وهذا ما تُفصح عنه شخصيات محورية تاريخية في النص، وأخرى يومية عابرة. 4- هكذا نقلت الحركية المسرحية من الظاهر المباشر الى الباطن المعقد، ومن اللحظة العابرة الى أفق التاريخ. فليس العمل المسرحيّ، في هذا المنظور، خشبة تُعرض عليها الأفكار، وإنما هو بالأحرى مشهد عمودي تنبجس منه الأفكار. وليس الممثل مجرد قارئ، وإنما هو أولاً مبدع. وليس المسرح مجرد مكان، وإنما هو فضاء يندرج فيه المكان، ذلك أنه هو أيضاً سؤال وليس جواباً. 5- النص، تبعاً لذلك، مفتوح يتيح للمخرج حرية كاملة في أن يعيد كتابته، إخراجياً، كما يشاء في سياق اللحظة الحاضرة، وأن تنهض هذه الكتابة الإخراجية على الشعر والفكر والعمل في آن. المشهد الثالث: نجمة أراها دائماً حانية رأسها على سرّة البحر الطالب نفسه، كلما علّق لافتة قرأها لافتة 1: ظلّي هو الذي ينام في فراشي، ويحبّ أن يكون وحيداً. لافتة 2: لمن تنثرين بذارَك أيتها الكنيسة؟ لافتة 3: لم أعرف الهاوية إلا في كتاب لا يتحدث إلا عن الذروات. لافتة 4: لماذا، نابولي، ضجر الناس من كلام النبوات؟ لماذا بدأوا يرتّلون كلام الأصنام؟ لافتة 5: تعلّم جرح الأرض، لكي تعرف كيف تكسر سكين السماء. يدخل خمسة عمال مهاجرين/ ساحة سان ? كارلو عامل 1 ما هذه المدينة! لم أنَم الليلة الماضية. عامل 2: النهار هنا ليل آخر يسير، على الأقل، بقدمي الليل. عامل 3: لا تحرر إلا بالعمل. لا عمل. أحب يديّ. عامل 4: والمرأة؟ ألا تحبّها؟ عامل 3: لم ألمس هنا امرأة، حتى الآن. أتنشقها من بعيد كما أتنشق الهواء. عامل5: الشمس هنا، في هذه الساحة، كمثل امرأة تحب أن تشرب القهوة واقفة، في مقهى غامبرينوس. عامل 3: تذكرك المرأة هنا بالشمس. أفضل من أن تذكرك بالمرأة عندنا. عامل 5: ما الفرق بينها وبين المرأة هنا؟ عامل 3: لا فرق في الجنس. الفرق في الثقافة والنظرة. كأنّ المرأة عندنا ليست أنثى، بل مجرد ذكر بُتر عضوه الجنسي، وحلّ محله ثقب. وكأن الجماع ليس إلا نوعاً من اعادة الذكر المبتور الى موضعه الأصلي، أو غرسه من جديد في مكانه الأول. عامل 5: فلسفة! يدخل ماسانييللو ماسانييللو: صحيح أن المهاجرين يجيئون الى نابولي شبه ضائعين. لكنّ التاريخ يثبت أنهم سرعان ما يصنعون من كواكبها أياماً، ومن أيامها أسرّة. أنقر أيها المغربي، دفّ البحر. أنسج أيها الصيني حرير الفضاء. عامل 5: ولماذا اذاً لا تحب نابولي العمّال المهاجرين؟ امس جاء شرطي، فاجأ قرب المخفر تماماً، قمر نابولي ينام على ذراع امرأة مهاجرة. حبس المرأة، وكتب تقريراً ضد السماء. وكلّ يوم، يمتطي حرس الشواطئ الموج ويراقبون الزبّد. ماسانييللو: أكيد أن تلك المرأة لا تحبّها الكنيسة. لا تحبها إلا تلك الريح التي حملتها الى نابولي. عامل 5: ليتك تعرف ولو امرأة مهاجرة واحدة، أياً كانت! في الطريق الذي سلكته حتى وصلت الى نابولي، كانت المسافة بركاناً لكن جسدها كان محيطاً. وكان حراس يحيطون بها ليسوا إلا أحلامها المرجأة. تتراكض في جسدها خيول وأحزان، وبين ثدييها ميدان تتنافس فيه النجوم. إنزع قميصك واصعد في هذه الغيمة الصاعدة. الحب شطرنج واللاعبون لم يصلوا بعد. عامل 1: نابولي نجمة أراها دائماً حانية رأسها على سرّة البحر. ماسانييللو: نابولي قيثارة تعزف عليها الامواج مراكب السفر. عامل 1: لا يعرفني البلد الذي جئت منه، لا يعرفني البلد الذي جئت اليه، لا أعرف نفسي. البحر الذي فتح لي ذراعيه، دون أن يريد، لا يعرفني. الطبيعة التي أعطتني ثوب نومها لا تعرفني وحده العنكبوب الذي يحب أن يبني بيته فوق رأسي، قال لي وداعاً. لا أشكو، لا أتحسّر. الأفق غامض، ونظري مبهم. أقول الزمن مريض لا يشفى وأنا أتحدر منه. لكن اسألك أيها السيد، لماذا تظل الحقيقة عرجاء إلا اذا سارت متكئة على عكّاز الدين والمال؟ يدخل كروتشه كروتشه: حقاً الواقع يحاصر اللغة، وللسماء خيول لا تعرف أن تركض إلا في الصحراء. هاتي نارَك يا نجوم نابولي، وطوّقي بها عقارب الوقت. لكن، ما هذه الأيائل الفارة من غابات الحلم التي تختبئ في شارع توليدو والتي تملأ الأزقة؟ عامل 3: هنا في الجهة السماوية من البحر، قرب شارع توليدو، أسمع الغرب يقدم نصائحه، وأرى الاسلاك تبشّر بها: كلما علّق نصيحة قرأها نصيحة 1 أحمل العنف على كتفيك، ودَلّله كطفل رضيع. نصيحة 2 اغتصب الضريبة كما لو أنها امرأة شاردة. نصيحة 3 هيئوا الجريمة كما لو أنكم تهيئون مائدة. نصيحة 4 الشارع مسرح دائم لمسرحية بلا نهاية، اسمها القتل. نصيحة 5 اقطعوا يد الأرض، فهي التي تسرق السماء. كروتشه، متأملاً كما لو أنه وحده: للعامل أكثر من جسم. لهذا تبدأ السماء عنده من الأسفل. وللشاعر أكثر من رأس. لهذا تبدأ الأرض عنده من الأعلى. العمل والشعر حصانان شقيقان في حلبة المعنى. صمت يبدو أن الذين يعرفون أن يحيوا حقاً، في نابولي، لم يولدوا بعد. عامل 5: وصل قطار المستقبل الى محطته في نابولي. لا يزال واقفاً. هل ترون ركاباً نزلوا منه؟ هل ترون ركاباً يصعدون اليه؟ لا يزال واقفاً. كروتشه: بدأت السياسة في نابولي، وفي الغرب كله، ترفض السير إلا على أربع قوائم. قولوا لأولئك الباحثين عن الرغيف لا يزال القمح مريضاً. صمت. موسيقى المشهد الخامس : شمس المدن نسيت مواعيدها مع الفجر تمثال"المسيح المحجّب"، حوله نساء محجّبات امرأة 1: أيّها المسيح المحجب، سواء كنت تسمع، أو كنت تراقب الملائكة وهم في ثياب العمل، أرجوك اسمح لي أن أقول أمامك إنني سمعت اليوم صلوات نساء يرسمن الملائكة على الإسفلت. ويروين أنّ الملائكة ينهضون في الليل يطوفون شوارع نابولي ويقرأون الجدران. أكثر من ملاك حاول أن يقبّل امرأة بقّالٍ مسلم في الحي الإسباني، وقيل في ريوني سانتيا، حيث يعرج الليل الى أسرّة النساء معجوناً بالوحي. امرأة 2: يقال ايضاً أن في نابولي عسساً ملائكياً يربطون أعناقهم بالنوافذ، وأفخاذهم بحبال غير مرئية. امرأة 3: لكن أريد أن أسال"المسيح المحجب"بماذا يتنبّأ الحجاب؟ امرأة 1: رائحة كبريت في الحجاب. رائحة سرير. رائحة لغة داخل اللغة. رائحة ايديولوجية. امرأة 2: لماذا هذه الأرض الأمّ لا تقبلني بين أحضانها إلا محجبة؟ ألأنني في ذلك رمز جمالٍ أرضي ضد جمال الألوهة ? ألهذا يجب أن أحجب عن العين اتقاء لفتنة النظر، وللغواية؟ مع ذلك، تحتاج نابولي الى من يذكّرها أن الايديولوجية امرأة تعيش في حيضٍ دائم. أن المادة لا ذوقَ لها. أن الروح تمثالٌ في مزاد علنيّ. أن الريح بلا ذاكرة. أن شمس المدن نسيت مواعيدها مع الفجر. أن الإسمنت عاشقٌ مهيَّم، وأن البحرَ حبّه الأخير. امرأة 3: المرأة بحرٌ آخر. وكل نجمة في سماء نابولي تختبئ في حاضنة نهدين. وكل غيمة في فضائها سروال عاشقة. امرأة 1: أضع وجهي فوق حجاب المسيح. هنا سيف رومانيّ. هنا رأسٌ مقطوع. هنا جدائل عاشقة. هنا رقصٌ وموسيقى. وأرى عبر الحجاب كيف يلتهم الغيبُ الواقعَ، وكيف تملأ الطحالبُ وجه العالم. امرأة 2: المرأة اليوم، وإن كانت سافرة، تعيش وراء حجاب. لا ينحصر الحجاب في منديل يُسدَل على الوجه. على العكس. هذا النوع من الحجاب يمكن أن يكون كشفاً. الحجاب هو في حجب الحرية. هو في العنف الذي يحجب الحياة عن الإنسان. الحجاب هو أن يحيا الإنسان كأنه نافورة من الحزن. هو في أن لا يكون لحزنه هوية، إذ ليس لفرحه اسمٌ ? كأنه وقع أقدامٍ في الغيم. الحجاب هو أن تتفتح المدينة كمثل بيضة تتفتح في مقلاةٍ عائلية. هو أن تُطبَخَ المرأة، كما يُطبَخ طعامٌ نادر. امرأة 1: حقاً أيها المسيح المحجب، لا أخاف من الموت. لا أخاف من الحياة. لا أخاف إلا من الخوف الذي هو الحجاب الأكبر. امرأة 3: المرأة الآن، وجبة. وجبة للنوافذ، والساحات والشاشات، والجرائد. وجبة لتسميم اللغة. وجبة لالتهام الأبدية في صحن مكسور. صمت يدخل ليوباردي، كروتشه، فيكو، وماسانييللو ليوباردي: انتهت غابة المذاهب، وخرج الرجل منها، لكن في ثياب ذئب آخر. لمن الكلمة الأخيرة في ما وراء الحجاب، لسماء الرجل أم لأرض المرأة؟ وكيف ستجيء إلينا، أفي ضوءٍ، أم في بذرة؟ أفي جسم بلا رأس، أم في قيثارة خانتها أوتارها؟ كروتشه: كل امرأة تنتمي الى نابولي، تنتمي الى البحر المتوسط. كل امرأة تنتمي الى البحر المتوسط ينتمي اليها الكون. أتخيّل سيارة إسعافٍ تحمل شوارع نابولي الى مصحات الحقول. ألا يبدو العالم آنذاك، منظوراً إليه بعين الرجل في نابولي، كأنه سجينٌ داخل حصانٍ آخر لطروادة ثانية؟ فيكو: المستقبل يذهب، هنا، لكن لكي يسجدَ بين يدي الماضي. حيث تختلط كتب أفلاطون وأرسطو بفواكه ريوني سانيتا، وحيث تمتزج أكياس القمامة بنكهة العصر. ماسانييللو: قد يكون ريوني سانيتا مهداً لطفولة رياحٍ يحرر فيها السجناء سجّانيهم. صوت امرأة: لا مدينة لي إلا جسدي. في مخيّلتي أحصنة تتراكض وترعى أعشابَ الآلهة. وها أنا ألمح السماء كيف تنزّه اشباحها وتتنقل معها بين شارع فيلانجييري وشارع كالابريتو. أين أنت أيها الغائب الذي لا يأتي؟ باسمك، سأسقي وردة الغياب آخر قطرة في إبريق الحلم. لا أجرؤ على القول إنني جميلة. أخاف أن تخجل نابولي من رؤية البحر مغموراً بالقمامة، ومن أمّنا فينوس العاشقة التي طلعت من صدره العاشق. لكن، لا تزال خمرة الأرض تنسكب عذراءَ من شفاهنا. لا تزال ثمارنا تتوهّج فريدة. لا يزال الموج سريرنا الأول. لا يزال البحر بيتنا: لا نوافذ، لا أبواب، لا مصاريع إلاّ للسفر والحبّ. وها نحن نصلّي لمسيح أخضر يسهر على هذه الأرض ? في الأثداء والشفاه، في العقود والخواتم والأقراط، في البحر والبر، حيث تقرع الأمواج طبولَ الزبد، وتتكئ الأشجار على الضوء. حيث نعطي خواصرنا لأمواجٍ تزحزح صخر التاريخ. حيث نرى في كل زاوية من نابولي، امرأة تغازل الليل في النهار وتغازل النهار في الليل. صمت / موسيقى