«الطريف» يعكس قوة الحكم ومركزية السلطة الأبعاد النفسية والاجتماعية عنصر حاسم في قيام الدولة السعودية تأسيس الدولة السعودية الأولى كان مشروعًا وحدوياً مدفوعًا بقوة إرادة تأسيس قائمة على رؤية متكاملة لصياغة نظام سياسي يوحد الجزيرة العربية تحت سلطة مركزية، وأعتمد في ذلك على البعد الفلسفي الجديد الذي لم يدرس بعمق، ويتمثل في الإرادة السياسية والاجتماعية، ويحاول التقرير الكشف عن الأبعاد النفسية والاجتماعية التي جعلت إرادة التأسيس عنصرًا حاسمًا في قيام الدولة السعودية على مدى ثلاثة قرون، ويؤكد هذه الفرضية بأن الأحداث كانت تسير وفق رؤية منضبطة لتحقيق مشروع متكامل لإرادة التأسيس، مكونة من أجزاء شملت المجتمع والعمارة والفنون والعلوم، وإرادة التأسيس هي القدرة على تجاوز العقبات الاجتماعية والسياسية، مدعومة بعزيمة وإرادة قادرة على تنفيذها، وفرض رؤية جديدة وواضحة للدولة، وما يميز الدولة السعودية الأولى أنها استطاعت بناء هيكل سياسي متماسك، يتضمن حسًا سياسيًا منظمًا وإدارة فعالة للبلدان التي ضمتها، وربط القبائل تحت مظلة سلطة واحدة، رغم الظروف المتغيرة، وبالتالي فهي ليست رغبة في الحكم، بل التزام تاريخي مستمر يتجسد في القرارات المصيرية التي حافظت على الدولة عبر ثلاثة قرون. ولمفهوم الإرادة عند الفلاسفة معانٍ متعددة، ويسميها الفيلسوف ابن رشد «شوق الفاعل إلى الفعل»، فإذا فعله كف الشوق وحصل المراد، والإرادة مركبة من رغبة وقوة وأمل. ويرى بعض الفلاسفة مثل شوبنهاور أن الإرادة هي جوهر الوجود والمحرك الأساسي للحياة، وأكد على فلسفة «إرادة البقاء»، ولكنه جعلها عمياء وغير عقلانية، بينما يرفض نيتشه هذه الأطروحة، ويستبدلها بإرادة القوة، ويجعلها عقلانية، بالعودة إلى زمن تأسيس الدولة السعودية، يتضح أن في نجد والجزيرة العربية عامة مجموعة من القوى المؤهلة لتأسيس دولة قوية، ولكنها إما محكومة من خارج المنطقة أو إمارات بلا طموحات توسعية مما يؤكد على أن إرادة تأسيس الدولة تتطلب الاستجابة الفعالة للمخاطر والتوسع وقوة التنظيم الإداري والعسكري. المجتمع والاستجابة لإرادة التأسيس: برز الإمام محمد بن سعود من بين هذه القوى مدفوعًا بإرادة تأسيس الدولة منذ توليه الحكم في الدرعية عام 1139ه/ 1727م، وقد جاءت نتيجة تجارب سياسية عميقة لدى أسرة الحكم ولديه شخصيًا، وهي إرادة منضبطة ومحكومة بتعاليم الدين الإسلامي ومراعية لقيم المجتمع وعاداته، فكانت فكرة تأسيس دولة لها منطق اجتماعي وسياسي، تلك الإرادة التي حولت الدرعية عاصمة دولة قوية حكمت معظم الجزيرة العربية، ووصل صداها إلى أنحاء العالم الإسلامي وأوروبا، كان المجتمع قبل ظهور الدولة السعودية يعيش حالة من التنافس الشديد؛ حيث كانت البلدان تتصارع على النفوذ داخل الأقاليم، والقبائل تتصارع على المراعي وموارد المياه، دون أن تكون هناك قوة توحدها، وقد أوجد هذا الوضع فراغًا سياسيًا بقي لعدة قرون يستنزف طاقة المجتمع ويشتت جهوده، ويقسمه إلى هويات متعددة رغم وحدة الهوية الدينية والاجتماعية والثقافية، مما تطلب إرادة قوية وقادرة على توحيد المجتمع تحت قيم مشتركة وسلطة مركزية واحدة، وتكمن أهمية المجتمع في أنه يمثل القاعدة التي بنيت عليها الدولة، وأن تأسيس الدولة كان مشروعًا مجتمعيًا حظي بقبول واسع. العمارة لغة للسلطة والشرعية أدرك الإمام محمد بن سعود وابنه الإمام عبدالعزيز بالفطرة القيادية ضرورة صناعة رموز معمارية ومكانية تعبر عن إرادة الدولة، ووجود حي يحمل معاني رمزية السيادة وإبراز فكرة الإرادة بالعمارة، فأصبح حي الطريف الذي يعكس قوة الحكم ومركزية السلطة، بينما كان حي البجيري، المقابل له، مما يعكس البعد الثقافي الذي يمتاز بكثرة مساجده وسكن العلماء وطلبة العلم فيه، وقد تحدث ماكس فيبر عن أنواع السلطة التي لاحظها عبر التاريخ، وأشار إلى شيوع السلطة التقليدية، وهي المستمدة من الدين والشرعية الثقافية، والتي يمثلها هنا حي البجيري، والسلطة القانونية والعقلانية، التي تجسدها المؤسسة السياسية، ويمثلها هنا حي الطريف، وهذا ما يؤكد «الإرادة بالعمارة» وأن المباني كانت أدوات سياسية لترسيخ السلطة وإبراز السيادة، وجزءًا من المشروع التكاملي، ويؤكد مارتن هايدغر في محاضرة «البناء والسكن والتفكير» على أننا نسكن المعاني التي تحملها المباني، مما يؤيد أن كل مباني وقصور الطريف والبجيري، كانت هندسة للشرعية وبيانًا سياسيًا. ولم يكن هذا التوزيع عشوائيًا، بل كان نوعًا من الهندسة السياسية والرمزية؛ حيث تتكامل القوة مع القيم. الشعر والمراسلات والهوية: في سياق الدولة السعودية الأولى كانت الفنون الشعبية وعلوم الأدب واللغة والشريعة جزءًا من قيام الدولة وأدوات لتشكيل الوعي وتعزيز الهوية الثقافية والسياسية، مما يؤكد على أن تأسيس الدولة كان مشروعًا حضاريًا متكاملًا، شمل البعد الثقافي والاجتماعي، وكانت هذه الوسائل رموز ثقافية وتاريخية لتعزيز الشعور بالهوية والانتماء؛ حيث كان للشعر والأنساب وتلك العلوم دور كبير في توحيد القبائل تحت راية الدولة، وعند تحليل الشعر والمؤلفات والمراسلات في الدولة السعودية الأولى نجد أنها تعد منتجًا فكريًا يعبر عن قيم إرادة الدولة المتمثلة في قيم الشجاعة والمبادرة ورفع المعنويات والثبات على المبدأ، ومضمر بداخلها ملحمة بطولية وإضفاء الشرعية على الحكم، وليست صراعا ماديا دنيويا، وركزت الدولة على أصول الدين ونشر الشريعة وفق ما ثبت في الكتاب والسنة بالتركيز على التوحيد الخالص والتخلص من البدع والخرافات، فكانت دراسة العقيدة في المساجد ومنازل العلماء ورسائل أئمة الدولة شكلًا تأمليًا جديدًا منح الشعور باليقين والطمأنينة في عالم مليء بالمهددات الأمنية، بينما زاد الاهتمام بالأنساب وتماسك القبائل واستقرار البلدان، وحظي الناس بشعور الأمان وتبديد المخاوف من بعضهم البعض؛ حيث كانت حروب القبائل مادية مؤقتة، إلا أن فكر الدولة الجديد وحّد القبائل ومنحهم الشعور بالمصير المشترك والإيمان بفكرة خالدة، وازدهار الشعر والعلوم والفنون لا يتحقق إلا في بيئة مستقرة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. الحتمية التاريخية: كان تأسيس الدولة مليئًا بالمعارك والصراعات، مما يعني أن كل إرادة تحقق هدفا معينا وتؤدي للتوسع، تقتضي صراعا ومعاناة وتحديات جديدة؛ وذلك لأن من سمات الإرادة أنها مفعمة بالحياة لا تهدأ. مدفوعة بقوة واعية أدركت بفهم عميق طبيعة الظروف التاريخية والسياسية والاجتماعية التي تمر بها المنطقة العربية، ومدفوعة برغبة أكيدة في بسط النفوذ، وتظهر الأطالس التاريخية للدولة السعودية الأولى أنها خاضت معارك كثيرة لا تكاد تتوقف في تسعين عامًا . لكن التحول الرئيس فيها أنها معارك استراتيجية، مثَّلت توسع الدولة وبسط النفوذ وإبعاد ما من شأنه التأثير في النسيج الوطني، وإعادة تعريف مفهوم السلطة والسيادة وفق رؤية أكثر محلية وارتباطا بالمجتمع، وكانت التبعية السياسية والفكرية تقيد الإرادة، وكان تأسيس الدولة السعودية أمام محك سياسي خطير في مجابهة الغزاة المعتدين، الذين فشلت مخططاتهم، فبرز قادة سياسيون جمعوا من الخبرات السياسية والاجتماعية، وفوق ذلك الإرادة القوية ما خول لهم الرغبة في تأسيس دولة لها نفوذ. ويؤيد سلامة هذا السياق التاريخي الجديد رؤية كارل شميت أن جوهر السيادة يكمن في القدرة على تحديد العدو، وتسهم هذه الفكرة في فهم ديناميكيات الصراع؛ حيث خاضت الدولة السعودية الأولى حروبًا داخلية مع البلدان والقبائل، ثم خاضت حروبًا مع قوى أكثر خبرة وتماسكًا انتهت بسقوط الدرعية وتدمير الطريف، الحي السياسي، والبجيري، مع سلامة بقية الأحياء والمزارع، التي كانت بعيدة عن هذين الحيين، إلا أنها تسببت في هجرات الأهالي للرياض ولمختلف مناطق نجد والجزيرة العربية، بقيت القوات المعتدية قرابة سنة، وغادرت ومعها آلاف الأسرى من الشخصيات السياسية والدينية وأسرهم، ثم عادت الدولة بقيادة الإمام تركي بن عبدالله عام ه1240 مؤسساً الدولة السعودية الثانية، كان سقوط الدولة السعودية الأولى شكليًا، ولكن لم يكن نهاية الفكرة، بل كان جزءًا من رحلة الصراع الطويل التي تعتبر من شروط إرادة التأسيس؛ لذلك بقيت الروح الاستقلالية في وجدان المجتمع، مما أدى إلى عودة الدولة السعودية الثانية، بينما استمر تراجع القوات المعتدية؛ حيث فقدت شرعيتها تدريجيًا لتراكم الظروف الخارجية والداخلية عليها. الإرادة لا تهدأ عندما انتهت الدولة السعودية الأولى عام 1233ه/ 1818م كان يمكن لهذا السقوط أن ينهي المشروع السعودي، وفقًا لمنطق التاريخ التقليدي، إذ إن سقوط الدول عادة يعني قيام غيرها، ولكن ما حدث مع الدولة السعودية كان انعكاسًا لقانون آخر، قانون الإرادة المتجددة التي تعيد تشكيل ذاتها كقوة تاريخية متحركة، ومن «شوارد التاريخ» أن تسقط الدولة، ثم تعود بأقوى مما كانت عليه، فهذه شاردة تاريخية لا يجود بها الزمان كثيرًا، ولم يكن الفراغ السياسي الذي تركته مؤقتًا متاحًا للزعامات المحلية والإقليمية؛ لأن الدولة كانت فكرة متجذرة في المجتمع، هذه الأحداث تعكس إرادة معاكسة تمامًا لقوانين التاريخ، فقد كادت الدولة من جديد بعد سبع سنوات، مما يؤكد على أن الفكرة المتمثلة في إرادة تأسيس الدولة تعيد إنتاج ذاتها باستمرار، وهذا يؤكد فلسفة الإرادة التي لا تتوقف ولا تهدأ، بل تعيد تشكيل ذاتها باستمرار، إن تأسيس الدولة السعودية جاء وفق فلسفة سياسية رصينة وإرادة سياسية عميقة، مكونة من أجزاء مكملة لمشروع الدولة شملت المجتمع والعمارة والفنون والعلوم؛ يفسر ذلك الدافع الذي حرّك نحو تأسيس الدولة، واختيار اللحظة التاريخية المناسبة لذلك، الأمر الذي غيّر موازين القوى في المنطقة، وحطّم تقاليد وأنظمة بالية، وأعلن عن قيام كيان جديد يعرف خصومه جيدا، ويملك الآليات المناسبة لمواجهتهم. إن تحليل تأسيس الدولة السعودية الأولى فلسفيًا، يبرز زوايا جديدة تؤكد على أن تجسيد الإرادة سمة أساسية في الدولة السعودية، فقد كانت القوة الدافعة إرادة تاريخية تتجلى في شخصية الإمام محمد بن سعود. وكانت الصراعات التي واجهتها الدولة تعكس الفكرة الفلسفية التي تؤكد أن المعاناة جزء من الطموح السياسي، وأن الإرادة تسبق الأسباب، وأن الفرص تبدو حينًا وتختفي أحيانًا، ولا يلتقطها إلا القائد المؤهل للإفادة منها. التأسيس قدرة تجاوز العقبات وفرض رؤية جديدة وواضحة للدولة