الأسواق العربية، رغم أنها مكان للتجارة والمقايضة، إلا أنها كانت أيضًا ميدانًا فسيحًا لتبادل الآراء، وعرض الأفكار، والتشاور في مشكلات الأمور، ومجالًا للمفاخرات والمناظرات والمحاورات، ومعرضًا لإذاعة مفاخر القبيلة وشرف الأرومة، وناديًا واسعًا لإلقاء روائع الشعر، والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالبلاغة، وفيها ألقيت أشهر القصائد والمعلقات العربية، ولعل هذا هو ما أضحى ذخرًا ثقافيًا للعرب يرجع إلى اهتمامهم بهذه الأسواق، وكيف كان شغفهم بها.. حين توافد الناس من جميع أنحاء العالم العربي على معرض القاهرة للكتاب هذه الأيام، ورأينا هذه الجموع الغفيرة من البشر تساءلنا: هل قدموا بهذه الجموع طلبا للكتاب، أم هناك رابط قوي أتى بهم إلى هذا الاحتفال الباذخ؟ سؤال محير الحقيقة وهو قد أفل نجم الكتاب الورقي في أجواء وأضواء الكتاب الإلكتروني ولعله كذلك؛ لكنه يبدو أن رائحة الورق وعبق الكتاب واحتضانه كالطفل الرضيع في حضن أمه كان هو الأمر الأهم والأميز، لإقبال الجماهير على حمل الكتب وكأنها بضائع وغنائم من تلك الأسواق العربية القديمة! لكن يحدو بنا ذلك التساؤل الملح والمسيطر على الذهن طيلة المرور في أجواء تزخر بالبشر، ليتضح لنا من ذلك أن هناك أمرا آخر؛ وهو ذلك الإرث القبلي الذي لا تزال جيناته تتجول في خلايا أجسادنا، ذلك الجين الهاجس على الدوام في الأفئدة، وهو عشق الاحتفالات التي كان لها النصيب الأوفر من حياة العربي، وهذه خاصية تتميز بها الشخصية العربية التي كانت قديما تبحث عن الأنس المفقود في دهاليز الصحراء، هذا البحث الدائم هو ما نراه اليوم في كل مكان. العرب هم الأكثر لحضور الاحتفالات، وهم الأوفر على شبكات التواصل، وهم الباحثون على الدوام على التواصل المستمر دون هوادة.. كل ذلك نابع من الوجدان العربي القديم، الذي لا يزال ماضيه ساخنا لم يبرد بعد بفعل التحديث! هناك ربط شديد الصلة بين معارض الكتاب في كل أرجاء الوطن العربي وبين الأسواق العربية القديمة، ولذا كنا نبحث عن رابط لهذه الظواهر التي وجدناها في ظواهر الأسواق العربية، التي خصصنا لها فصلا في كتابنا (الجزيرة العربية) ليس كتأريخ، وإنما للبحث عن سمات الشخصية في هذه الظاهرة.. فمعارض الكتاب بصفة عامة تحمل في طياتها ذلك الوهج المعرفي لما تكتنفه الشخصية ذاتها من الأسواق العربية التي رأينا فيها العجب لما لتاريخنا من سمات تتحول في نهاية المطاف إلى ظاهرة من الظواهر الثقافية والمعرفية. فالأسواق العربية لم تكن كما هو مفهوم السوق في يومنا هذا، وإنما كانت حياة زاخرة وعيشاً متنوعاً بين اللذة والشقاء! ففيها صناعة وتجارة وعادات وتقاليد، ومجالس أدبية وبلاغة نثرية وشعرية، وتنفيذ أحكام وإشهار علاقات وتآلفات أو قطعها. كان العرب يُعرفون لدى الشعوب القديمة أنهم وسطاء التجارة وحفظة دروبها، جريًا على عادتهم في الحل والترحال وتمرسهم بالمفاوز، فالأسواق العربية القديمة كنز من كنوز تاريخ التجارة والمحافل العربية، ومعلم من معالمها المتوارثة في تكوين الشخصية العربية بأسواقهم المتعددة مثل حضرموت، ظفار، صنعاء، تيماء، بصرى، تدمر، ودمشق، إلا أن لقريش الزعامة في هذا الشأن؛ فكانت في تلك الحلبة التجارية هي المجلية، فقد قبضت على مخنق العرب، واحتجزت الأموال، واستأثرت بالمتاجر أو كادت.. ولأن اسمها تصغير لكلمة (القرش)، ولهذا سميت قريش بهذا الاسم، نتيجة تقرشها على القبائل وحول الكعبة وعلى التجار والتجارة. ولم يكن هناك سوق مستقر بأناسه وباعته ورواده، بل كان سوقاً ينتقل بين الأسواق المعروفة والمرتادة بين العرب. فقد كان العرب يقيمون أسواقهم في كل شهور السنة، وينتقلون من بعضها إلى بعض، ويحضرها سائر العرب من قَرُب منهم ومن بَعُد، فكانوا ينزلون دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشّونهم بعض رؤساء كلب فيقيمون سوقهم إلى آخر الشهر، ثم ينتقلون إلى سوق هجر في شهر ربيع الآخر، فيقام سوقهم بها، وكان يعشوهم ملك البحرين آنذاك المنذر ابن ساوى أحد بني بن دارم، ثم يرتحلون نحو عُمان والبحرين فيقيمون سهما بها، ثم يرتحلون، فينزلون آدم وقرى الشجْر فيقيمون أسواقهم بها أيام، ثم يرتحلون فينزلون عدن أبين فيقيمون سوقهم بها. ومن أشهر أسواقهم العربية في الحجاز: 1- سوق عكاظ: وكان يُعقد في أول ذي القعدة إلى العشرين منه، وهو أعظم أسواقهم، وقد اُتِّخذ سوقاً بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، وظل قائماً في الإسلام حتى نهبه الخوارج عام 129ه حين خرجوا بمكة مع المختار بن عوف. 2- سوق مجنة: ومجنة موضع بمر الظهران أسفل مكة على أميال منها، وكانوا ينتقلون إليها من عكاظ فيقيمون فيها إلى نهاية ذي القعدة. 3- سوق ذي المجاز بمنى خلف عرفة: وكانوا يقيمون فيه ثمانية أيام من ذي الحجة، ثم يقفون بعرفة في اليوم التاسع. 4- سوق دومة الجندل: وينعقد في ربيع الأول، ويحدد البغدادي ميعاد انعقاده فيجعله اليوم الخامس عشر من ربيع الأول من كل عام. 5- سوق مكة: وهو سوق دائم. 6- سوق نطاة خيبر: ويعقد بعد أيام الحج، كما روى الألوسي. 7- سوق منى.. وغير ذلك من الأسواق التي لا يتسع هذا المقال لذكرها! والأسواق العربية، رغم أنها مكان للتجارة والمقايضة، إلا أنها كانت أيضًا ميداناً فسيحاً لتبادل الآراء، وعرض الأفكار، والتشاور في مشكلات الأمور، ومجالاً للمفاخرات والمناظرات والمحاورات، ومعرضاً لإذاعة مفاخر القبيلة وشرف الأرومة، ونادياً واسعاً لإلقاء روائع الشعر، والمباهاة بالفصاحة، والمفاخرة بالبلاغة، وفيها ألقيت أشهر القصائد والمعلقات العربية، ولعل هذا هو ما أضحى ذخراً ثقافياً للعرب يرجع إلى اهتمامهم بهذه الأسواق، وكيف كان شغفهم بها، فلما استوثق لهم الأمر، صارت هذه التجمعات أندية لإنشاد الشعر وتبادل الأفكار ونشر المعرفة والأنس بالآخر وحرص كبير على الظهور والتواجد، فالظهور في المحافل يعزز من فخر الشخصية، وهذا متأصل فيها لا محالة. إن ما نراه اليوم من تجمعات عربية بتلك السمات التي ذكرناها سلفا، هي ما نرى تطورها اليوم في شكل معارض الكتاب الدولية والعربية بحثا عن التواجد والظهور والمفاخرة والتآنس والاقتناء وحضور الندوات بشتى صنوفها الأدبية، وما شاهدناه في معرض القاهرة يعد نموذجا لتطور هذا الإرث المستكين في عمق الشخصية العربية، لترتحل بعدها إلى معارض أخرى.