يتم غداً الاثنين تنصيب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لفترة رئاسية ثانية بعد فترته الأولى التي انتهت قبل 4 سنوات تقريباً، في ظل توقعات قوية بسعيه لإعادة صياغة النظام الدولي من ناحية وتصورات الولاياتالمتحدة لدورها ودور القواعد الدولية في هذا النظام. وفي تحليل نشره موقع المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) البريطاني قالت الدكتورة ليزلي فينجاموري مديرة برنامج الولاياتالمتحدة والأميركتين في المعهد: إن الجرأة التي يعيد بها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب قواعد الدبلوماسية الأميركية مذهلة. فتهديداته بفرض رسوم جمركية على منتجات أصدقاء الولاياتالمتحدة تأتي في وقت سيىء. فالنمو الاقتصادي في العديد من أعضاء مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى ضعيف للغاية، والدول تكافح للتغلب على التضخم المرتفع، وستضر الرسوم المحتملة بالقطاعات الاقتصادية التي تعتمد على التجارة. ورغم ذلك فإن تصورات ترمب الجيوسياسية أسوأ من ذلك بكثير. فالدول التي تعتمد على المساعدة العسكرية الأمريكية مثل تايوانوأوكرانيا تخشى تخلي واشنطن عنها. والآن يتحدث ترمب عن رغبته في ضم كل من جرينلاند وكندا إلى بلاده وفرض السيطرة على قناة بنما بالقوة، وفرض عقوبات على المكسيك بسبب تهريب المخدرات والمهاجرين عبر الحدود. لذلك يحاول قادة الدول الأوروبية وكنداوالمكسيك إيجاد الطريقة المناسبة للتعامل مع التحديات التي سيفرضها ترمب على العالم ككل وعلى دولهم بشكل خاص. ويعتبر التقارب مع ترمب والتودد إليه أحد الخيارات المطروحة. وينصح جون بولتون مستشار الأمن القومي في إدارة ترمب السابقة قادة العالم بذلك قائلاً: "اتصلوا به والتقوا معه، وتحدثوا إليه عن أي شيء. وإذا فشل كل ذلك تعلموا كيف تلعبون الجولف" في إشارة إلى امتلاك ترمب منتجع جولف فاخراً في ولاية فلوريدا. ولكن من غير المؤكد أن يجدي ذلك نفعاً مع ترمب. وقد يدفع القادة الديمقراطيون الضعاف في بلادهم ثمناً باهظاً لهذا التقارب. وزار رئيس وزراء كندا جاستن ترودو ترمب في منتجع مار ايه لاجو في أواخر نوفمبر الماضي في محاولة من جانبه لإقناعه بالتراجع عن تهديده بفرض رسوم على المنتجات الكندية. فعل ترودو ذلك رغم اعتراض نائبته كريستيا فريلاند التي تتطالب باتخاذ موقف صارم ضد ترمب، واستقالت من منصبها احتجاجاً على لقاء ترودو معه. وكانت هذه الضربة الأخيرة لحكومة رئيس الوزراء الكندي الضعيفة فاضطر هو أيضاً لإعلان استقالته في وقت سابق من الشهر الحالي. في المقابل تبنت رئيسة المكسيك كلاوديا شاينباوم موقفاً أكثر تشددا تجاه تهديدات ترمب وهددت بفرض رسوم مضادة على المنتجات الأمريكية. في الوقت نفسه تتحرك شاينباوم وتعلن عن ضبط كميات ضخمة من مخدر فينتانيل. ويعني هذا أن إظهار القوة في العلن في مواجهة تهديدات ترمب، مع الاستجابة لمطالبه المقبولة يمكن أن يكون استراتيجية سليمة، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين نظراً لأن ترمب نفسه شخص يصعب التنبؤ بقراراته. وتبدو الصين أكثر ثقة في ردها على تهديدات ترمب. فقد تبنت استراتيجية الانتقام الاستباقي ومددت الرسوم المفروضة على منتجات أمريكية محددة وفرضت عقوبات على شركات أميركية. وعلى عكس نظرائه في أوروبا وكندا، لا يخشى الرئيس الصيني شي جين بينج من أي احتجاجات أو صدامات في الداخل. ويقول إيفان ميديروس المسؤول السابق في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما: إن استراتيجية الصين هي استراتيجية الانتقام والتكيف وتقليل الاعتماد على الولاياتالمتحدة. في الوقت نفسه فإن أوروبا منقسمة. ففي اجتماع المنتدى الثلاثي في مدريد، شجع أنطوني جرادنر السفير الأمريكي لدى الاتحاد الأوروبي والذي عمل في إدارة أوباما، الأوروبيين على وضع خطة لفرض رسوم انتقامية على المنتجات الأميركية. ولكن هناك دول أوروبية أخرى تراهن على كسب رضا الإدارة الأميركية الجديدة من خلال التعهد بشراء الأسلحة والغاز الطبيعي المسال من الولاياتالمتحدة. لكن مناورات ترمب الجيوسياسية تثير مخاوف على نطاق مختلف، لأن وعده بإبرام اتفاق بشأن حرب أوكرانيا يثير ثلاثة أسئلة على الأقل بالنسبة لأوروبا: أولا- ما الخطوط الحمراء التي وضعها ترمب (إن وجدت) فيما يتصل ببوتين وأوكرانيا؟ وإذا تخلى ترمب عن أوكرانيا فهل ينتهي الأمر عند هذا الحد، أم أنه سيتخلى أيضاً عن الالتزام الأمني الأميركي تجاه أوروبا؟ وإذا كانت الولاياتالمتحدة على استعداد للتنازل أو حتى التخلي عن السيادة الإقليمية لأوكرانيا، فهل يعني هذا أنها ستفعل الشيء نفسه بالنسبة لدول صغيرة أخرى في أجزاء أخرى من العالم؟ في الوقت نفسه فإن حديث ترمب عن رغبته في الاستيلاء على جرينلاند وضم كندا إلى الولاياتالمتحدة، يهدد بتحويل الاعتداء على سيادة الدول إلى أمر مقبول، ويؤجج المخاوف من أن يفتح احتقار ترمب لسيادة الدول إلى تغييرات جذرية في القواعد الدولية. وترى الدكتورة ليزلي فينجاموري أستاذة العلاقات الدولية في جامعة لندن أن هذا الأمر ينطوي أيضاً على مخاطر بالنسبة للولايات المتحدة. فإن تم إضعاف القيود القانونية والمعيارية للسيادة، سيزداد الاعتماد على الردع وأيضاً على مصداقية الردع، لمنع القوى الكبرى الأخرى من استخدام الإكراه أو القوة العسكرية لتغيير حدودها وهي مسألة خطيرة في أي نزاع مع الصين وبخاصة بشأن تايوان. وبالنسبة لتايوان هناك حالة عدم يقين وجودية. فهل يسعى ترمب إلى صفقة كبرى مع بكين تتضمن مقايضة سيادة تايوان بشيء آخر أقرب للمصالح الداخلية الأميركية؟ أم أنه سيعيد السياسة الأميركية إلى موقفها السابق الذي يعتمد على الغموض الاستراتيجي بشأن ما ستقوم به الولاياتالمتحدة في حال نشوب مواجهة بين الصينوتايوان؟ إن التحدي الذي يواجه قادة العالم هو كيفية اكتشاف نوايا ترمب. فقد يكون ترمب يخطط بشكل أساسي لاستمرار موقف أميركا الراهن بشأن العلاقات الدولية، وأنه يستخدم تكتيكات غير تقليدية لتحسين وصولها إلى الأسواق وإقامة تحالفات أقوى أو أكثر توازناً. في هذه الحالة قد يكون التقارب والدبلوماسية والزيارات والهدايا واتخاذ خطوات نحو الاستجابة لمطالبه خياراً ذكياً للتعامل معه. لكن إذا كان ترمب يريد حقيقة ضم كندا وجرينلاند ويعتزم التخلي عن تايوانوأوكرانيا في إطار مخطط أكبر لنظام دولي جديد، فسيكون على شركاء وحلفاء الولاياتالمتحدة تبني موقفاً أكثر استراتيجية وأشد صرامة وأطول مدى في مواجهته. ويعني هذا ضرورة قيام هذه الدول بتعزيز قدراتها العسكرية، بل وإيجاد بدائل للقوة والشراكة الأميركية إذا لزم الأمر. هذه الصيغة ستصبح أكثر أهمية بالنسبة لأوروبا وبخاصة بالنسبة للتعامل مع الصين. ويمكن أن يكون تعميق العلاقات الأوروبية - الصينية رداً عملياً على الولاياتالمتحدة التي تعتزم التخلي عن القارة الأوروبية. لكن هذا الخيار سيكون محفوفاً بالمخاطر إذا كان ترمب يريد فقط من أوروبا الانحياز للقوة الأميركية.