ارتبط اسم الفيلسوف هيراقليطس ت 470 ق م بمدينة أفسوس التي اعتبرت من أهم وأقدم المدن الإغريقية بأسيا الصغرى والأولى بأيونيا، لقد اعتبرت مدينة تجارية وثقافية اشتهرت بمكتبة سليس ثالث أكبر مكتبة في العالم القديم المتضمنة لأكثر من مائتي ألف مجلد ومخطوط، كما أنها مدينة دينية اشتهرت بعبادة الإله أرتميس أو ديانا التي عرفت بإله الصيد وكانت رمزاً للخصوبة والعطاء عند الأيونيين. على الرغم من قصر النصوص الهيراقليطية إلا أنها تتميز بثراء واسع وتعبر عن تأملات عميقة، ولعل أهم ما ميز هذه الفلسفة تأكيدها على مفهوم الصيرورة والتغير، هذا التصور يخالف النظرة الثابتة للأشياء التي عبر عنها الفيلسوف برمانيدس المُقر أن كل ما هو موجود فهو موجود وما يتغير ليس موجوداً حقاً. بمعنى أن الحركة حسبه مجرد وهم على الرغم من وجود خلاف حول أيهما كتب رداً على الآخر إلا أن الاهتمام كان متزايداً بفلسفة هيراقليطس المنطلقة من رفض الثبات والقول بالتغير، فالفكرة الأساسية عنده هي مبدأ الحركة ومبدأ وحدة الأضداد والتوازن البنيوي الذي يحكم هذه الحركة وذلك التغير بهذا يصبح الصراع قانونًا حتميًا يعبر عن صيرورة كونية عامة، فنحن كما تدل على ذلك الشذرة 81 «نكون ولا نكون في زمانين متعاقبين» القصد من ذلك أننا نوجد داخل التحولات وإن لم ندركها ولا نعيها على الوجه أمثل، إن الكون بما فيه الإنسان عرضة لصيرورة أساسها تبدل دائم قوامه الصراع والتعايش، «فما فينا هو شيء واحد ونفس الشيء حياة وموت، يقظة ونوم، صغر وكبر» (شذرة 78) فلا غرابة أن المرض يجعل الصحة ممتعة ونقبل على الأكل خشية الجوع ونخلد إلى الراحة بعد صراع متعب، إن منطق الحركة يصادفنا في كثير من حكم هذا الفيلسوف الذي يرى أني أعتقد متوهماً أني أنا هو أنا لكن هذه الهوية في الواقع حركة متواصلة قد لا أستشعرها شخصياً، لكن تحضر مباشرة عند من يعلق على تغير شكلي وملامحي، إننا والكون أشبه بالنهر الذي يبدو من بعيد ثابتاً، لكنه دوماً متحرك نحو مصبه، «فالعالم ليس إلا هذا النهار والليل الشتاء والصيف الحرب والسلم» (الشذرة 54) لأن مبدأ الصيرورة سنة كونية تحوي التضاد وهذه الوحدة هي صلب نظرية اللوغوس المعبرة عن العقل أو القانون في المنظومة الفكرية لهذا الفيلسوف وتلحقه بأوائل الفلاسفة الذين ربطوا جوهر التغير بهذا المبدأ العقلي. إن هذا الطرح المصغي لصيرورة وجودية وتاريخية مبنية على تعقب للظواهر في تنوعها وللعناصر في تغيرها يستدعي اللامرئي عبر تجليات الصراع والحركة. هذا التأمل للوحدة في تعددها مبرر لكثير من الدراسات التي لا ترى في فلسفة هيراقليطس إلا فكراً جوهره الحدث ونظراً لقوة هذا الطرح فإنه استلهم لاحقاً في تأملات فلسفية جوهرها قيمة أن يكون الائتلاف اختلافاً والتعدد وحدة، في فكر يركب بين التناقضات ويحوي الأضداد معترفاً أن الصراع والتغير قوامه للاتجانس واللاتألف معترفاً بنسبية الصفات والقيم. إن هذا التوجه كان باعثاً لكثير من مؤرخي الفلسفة للربط بين منعطفات الفكر الفلسفي الغربي الحديث وقوة هذا الفكر، تعترف جاكلين روس أن هذا الفيلسوف الذي ينفتح فكره على أكثر من مستوى في القراءة والتحليل نظراً لطابع حِكمه السرمدي كان محل إعجاب هيجل والماركسيين الذين استنبطوا من شذراته فكراً جدلياً يرسخ صراع الأضداد وكذلك من طرف نيتشه والسرياليين وهيدجر، يطلق نيتشه تسمية حكيم أفسوس على هيراقليطس ففي مؤلفه الفلسفة في العصر المأسوي الإغريقي إشادة وإعجاب وتعاطف مميز يحاور به نيتشه هذه الفلسفة، حيث يصفه بالموهوب ذي القدرة الفائقة على التمثل الحدسي وأنه جدد غريزة خلق العالم، كما أن فلسفة الحركة والتغير تبرز بقوة مع تحليلات برغسون الداعية للعودة إلى الحياة باعتبارها لحناً مستمراً وإلى الوجود المتجدد. نعتقد أن من مزايا الفلسفة الانفتاح على فكر التطور والصيرورة الرافض لسلطة الثبات التي تقصي تغيرات الحياة وثراء الخصوصيات وتعدد المنطلقات، هذا الرهان توقف عنده الفيلسوف المعاصر المعترف بنسبية الحقيقة وتعدد المعايير، فحري أن نتأمل في مزايا هذا الطرح في ظرف تعاني فيه الإنسانية من ويلات أفكار ظلامية تُعصب عينيها عن منطق التحولات والتغير لكن عبثاً تنجح في إيقاف صيرورة الحياة.