يؤكد المورث العربي والشعبي أنَّ عادات اجتماعية قديمة ضمن منظومة العادات والتقاليد التي اعتنقها المجتمع اندثرت لعدم الحاجة لها بفعل المتغيرات التي طرأت على الحياة عبر الزمن؛ ومنها عادة -الفتاة المُخَبَّأة- التي بقيت حية بقصائد الشعر الجاهلي وشعر ما بعد الإسلام والشعر والنبطي وفي الأمثال القديمة والشعبية، كما أخذت هذه العادة مساحة واسعة في المرويات والحكايات في أدبنا الشعبي، فكانت دليلا على ممارسة هذه العادة التي اندثرت بفعل التطور الاجتماعي، وكانت العرب قديما وحتى وقت قريب تنْصب بيتاً صَغيراً من صُوفٍ أو شَعْرِ ماعز يسمى -المَخْبَأ- وغالبا ما تكون المُخبَّأة فيه من بنات الشيوخ بداعي الحرص والخوف عليها من تداعيات اللَّانظام الذي كان يعيشه المجتمع قديما من حروب وثأر وانتقام، فلا يدخل عليها غير خدمها الخاص، ولا تخرج إلا لقضاء الحاجة بمعية حُرّاسها. وكانت الفتاة المُخبَّأة مصدر فخر واعتزاز لعائلتها، ومصدرا لحماس الفرسان للذود عنها وعن القبيلة عند الحروب فهي عنصر مهم في المحافظة عليه حتى لا تنكسر سمعة القبيلة. وفي حال سُبيت فإنّ العار سيلحقهم مدى الحياة، ويؤكد الشاعر المرحوم بإذن الله محارب بن جديعان الشراري ممارسة هذه العادة. يقول: الخنفة الخفرة كما البنت بخْباه بأيام عرس وطيابا له حليله إن أخصبت أسامره مع دحاياه تلقى منازلنا بفائظ دبيله وقال الشاعر: وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهنكة تحت الخباء المعتمد كما أكّد الشعر أنها عادة في منظومة العادات والتقاليد في العصر الجاهلي فهذا ذو الرِّمة يصف أحد الرجال الذي خلط بين صفتيَّ الحياء والشجاعة: وأحيا من مخبَّأة حياء وأجرء من أبي شبل هزير ويقول الأعشى ولَأنتَ أحْيَا مِنْ مُخَبَأة عذراء تَقْطِنُ جانب الكِسْرِ. وتُبرِز الأمثال العربية والشعبية أن الحياء من أكبر صفات الفتاة المُخبَّأة فيقال -أحيا من مُخدّرة- ويضرب المثل في الحياء عموما فيُقال: فلان في الحياء كبنتٍ مُخبَّأة. وفي المثل الشعبي: فلانة بنتٌ مخبأة. أمَّا في المرويات والحكايات الشعبية فللمُخَبَّأة نصيب الأسد فيها؛ وهي عادة لا تجدها إلا في مجتمع الجزيرة العربية منذ القِدَم؛ ومنها حكاية -فاطمة المَخْبيَّة- التي عشقها مولى لها فجَارَ على أهلها وقتلهم وهم نيام واختطفها ليتزوجها؛ وتوالت الأحداث حتى أنقذها منه شاب سمع عن معاناتها مع المولى. أما -صاحبة الفنجال- فحكاية فتاة مَخْبيَّة شكّ والدها في سلوكها بحسب الأحداث وأراد قتلها فهربت مع رجل كريم تزوجها، دارت بهم الأيام وتوالت الأحداث حتى جمعتها الصدفة مع والدها، وبحيلة منها عرف الحقيقة وندم على نية قتلها وسامحته وعاش في نهاية الحكاية معها. ومن العجيب أنَّ نجد أساطير تعتنقها المجتمعات المحليَّة التي تعيش في بيئة أثرية وحولها آثار ترَكتها حضارات قديمة وتجهل تاريخها؛ تتحدث عن عادة تَخْبِأة بنات عليَّة القوم في مجتمعات تلك الحضارات البائدة ولنفس السبب في المجتمعات الحديثة وهو الحفاظ عليهن. ومنها الأسطورة النبطية -وائلة والصانع- التي تذكر أن الصانع نَحَتَ قصر البنت الأثري المعروف في المنطقة الأثرية في العلا في الجبل؛ بأمر من الملك لابنته وائلة وخبأها فيه؛ فنحت الصانع الذي عشق وائلة قصره بجانب قصر البنت، بدأت وائلة بالتواصل معه بواسطة شعرها الطويل، وتوالت أحداث الأسطورة حتى عرف الملك بأمرهما فقتل ابنته وائلة والصانع ومولودهما. وأوعَزت الأسطورة اللون الأحمر الموجود على الجبل اليوم أنَّها دماؤهم؛ كما أوعزت عدم اكتمال قصر الصانع من أحد جانبيه بسبب قتله. وأسطورة تدور في قلعة أثرية تعود للحضارة اللحيانية في محافظة العيص التابعة لمنطقة المدينةالمنورة؛ سُمي باسمها -قصر البنت- وتقول الأسطورة: إنَّ لحاكم المنطقةِ أخت خبأها في إحدى غرف القصر خوفا عليها لجمالها. لا تخرج منها أبدا؛ فتسمعها زوجة أخيها وهي تناجي وتتغزل بالقمر في الليالي المقمرة بصوتٍ مسموع؛ فوسوست لزوجها أنّ لأخته عاشق يزورها بالليل وطلبت منه أنْ يتأكد، اقترب الأخ من الغرفة عند منتصف الليل وسمع أخته تتغزل وكأنها تحادث شخص، فدخل عليها دون أن يفكر وقتلها. يبْرُز هنا مدى تأثير المكان على ثقافة المجتمع. لكن ماذا لو كانت هذه الأساطير متوارثة؟ ما يجعلنا نُخمِّن بأنَّها عادة جاءت من ترسبات عادات قديمة راسخة في مجتمع الجزيرة العربية تهدف لصون الفتاة والحفاظ عليها. وإنْ دلَّتْ معطيات الأسطورتين أنهما نشأتا في مجتمع يعيش على أرض لها عمق ضارب في التاريخ تركت أثارا يجهل المجتمع تاريخها فنسج حولها الخيال الذي لم يخرج عن ثقافة مجتمع المملكة العربية السعودية خصوصا في مروياته وحكاياته الشعبية. ملاحظة: البهنكة: المرأة الجميلة؛ مُخَدَّرة: أي في الخُدْر أو الخِبَاء. قلعة البنت في العيص وأحيا من مخبَّأة حياء الخنفة داخل محمية الملك سلمان بن عبدالعزيز الملكية