زارت الليدي آن بلنت (1837-1917) المنطقة العربية خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر. إذ بعد أن انتهت من رحلة إلى جزيرة الفرات حيث سمعت من عشائر البدو من عنزة والرولة أن منبع أصولهم وموئل عزهم وافتخارهم في نجد، فعقدت العزم أن تزور نجد خلال 1878 بمرافقة الدليل أو الخوي محمد العبد الله العرُّوق من دمشق نحو حائل، حيث استأذنت أميرها محمد بن رشيد، بزيارة حريمه، فأرسل رسولاً كي يستقبلنها فتقول: «كانت المدفأة، كالعادة، حفرة مستطيلة في الأرض وهي على يسار الداخل في الزاوية قرب الباب، وفي وسطها موقد يحوي النار، وبينها وبين الجدار مُدَّت سجاجيدُ فخمة. وقفت الحاضرات جميعهن لما وصلت ولقد ميزت عَمْشة بسهولة بين الجميع حتى قبل أن تتقدم لترحب بي. كان لها تميز في المظهر والسلوك بشكل فاق صاحباتها. ولكونها ابنة عبيد وأخت حمود فلها كل الحق أن تفوق الجميع تألقاً، من صديقات أو قريبات أو ضرائر. كان وجهها حسناً برغم كونه أقلَّ جمالاً من وجه أخيها، وكان أنفها وفمها جميلي الشكل وفيها شيء متألق ومثير للإعجاب.»(رحلة إلى نجد، ص:260). ..هذا الجزء يصف ملمحاً تاريخياً من الحياة الاجتماعية لنساء نجديات، وهذا ما يغيب في مدونات التاريخ النجدية منذ أول مدونة تعود إلى أحمد بن بسام (المتوفى:1040 للهجرة-1630م) حيث ظلت تلك المدونات التاريخية محكومة بأسباب تتدخل في أصل تأليفها أو تدوينها، وهي لا تتجاوز الأسباب التالية: - تدوين الأنساب (لأسرة نبيلة أو حاكمة لإمارة). - وصف كوارث الطبيعة: المجاعة، موسم الجراد وهلاك الزرع. - الحدث السياسي-الاجتماعي (حروب أهلية أو غزاة من الخارج أو هجرة). .. وإذا ما كان انشغل المؤرخون إلى المحققين بتلك الأسباب، أو بثالوث النحس: الفقر، المجاعة والحرب منذ القرن السابع عشر الميلادي حتى القرن العشرين، فإن الرحَّالة عرباً وأوروبيين، أو رواة الثقافة الشفوية كانوا أصدق من المؤرخين والمحققين في تسجيل ملامح من الحياة الثقافية، في بعديها: القروي والبدوي، وتفاعلهما الحضاري عبر أسفار التجارة والتعليم، وهذا ما حفظته لنا الأجزاء الخمسة من كتاب: «أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب» الصادر أول جزء منه: 1967، وطبع ست طبعات حتى الآن. ..لطالما تضعنا عبارة: «أساطير شعبية»في مأزق تصنيف تلك المرويات الشفوية ذات النوع السردي أو القصصي إلى تحولها إلى مدونات سردية تحمل طابعها الخالي من تقنية السرد المتطورة مبقية الحكاية في طزاجتها المروية معبرة عن أدب ذي بعد شعبي، لا نخبوي، رائج بين مستويات وقيم مختلفة. .. وإذا ما رأينا النوع الأدبي القائم تحت تلك العبارة أساطير شعبية، فهي تعتني بما صنفه الأستاذ الجهيمان، بالسالفة والسبحونة، الأولى حكاية واقعية ذات زمن منته والثانية حكاية خيالية زمنها متحول (أساطير شعبية ،ج:1،ص:12) حيث تندرج تلك الأجناس الأدبية بفن السرد، بين قالبي الحكاية أو القصة، فإذا كانت الأسطورة: حكاية خيالية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معانٍ ذات صلة بالكون، الوجود والإنسان فيلتزم البشر بتصديقها على اعتبار أنها موجهة إليهم. أما الخرافة: حكاية خيالية تجري أحداثها بعيداً عن الواقع متسمة بالمبالغات والتهويلات شخصياتها بين البشر والجانّ أو البشر والأحياء الأخرى، وهي ليست ملزمة بالتصديق. (الأسطورة والمعنى، السواح،ص:14-15). وهذه التفرقة تتصل بالأدب الحضاري بنوعيه شعراً وسرداً: وهي مرحلة النقوش الحجرية، فليس هناك قصيدة بل ملحمة، كما ليس هناك دعاء بل تعاويذ. الشيخ عبدالكريم الجهيمان والشيخ يوسف القرضاوي .. وإذا عرفنا الأدب الحضاري خلال القرون الأخيرة بمرحلة الكتابة الورقية فإن هناك الشعر منظوماً ومنثوراً كذلك القصة القصيرة حكاية فرد تتسم بسرد لحظة في مشهد حياتي تتسم بالقصر والتكثيف، والرواية: حكاية شخصيات تتسم بلعبة التحول الزمني والمكاني تتسم بوفرة الأحداث وتداخلها فطولها وقصرها تحدده حالة الصراع بين الشخصيات وحكاياتها. .. إذن، نستطيع أن نضع السالفة أصلاً بعيداً إنما يقترب إلى نوع القصة القصيرة والرواية فيما تقترب السبحونة من الخرافة وبهكذا تخرج الأسطورة من كلمة شعبية،ونستطيع أن نضع عبارة حكايات شعبية من قلب جزيرة العرب كعنوان مقترح بديل أساطير شعبية. .. وإذا كان، الجهيمان، راوياً استعادياً، أي لا يمتلك حق أبوته للحكاية، فهو يعمل على فلكلور أي أنماط تعبير أدبية تنتمي إلى ثقافة شفوية، وهي ذات طبيعة أمومية، أي أننا نعرف أمها، ولا نعرف أباها، بل ربما يكثر الآباء والأمهات لها خلال سني روايتها من شخص لآخر وزمن لغيره. هذا الفلكلور أو الإبداع الشعبي ذو السمة الشفوية، حتى عندما دونها الجهيمان، وسيلة لدراسة ثقافة شعب الجزيرة العربية خلال فترة زمنية كانت تغيب بشكل مريب في مدونات التاريخ التي لم تر في نجد، على الأقل، سوى: الفقر، المجاعة والحرب إذ تواطأت تلك المدونات على تجاهل ثقافة نابضة حملتها أشعار حميدان الشويعر إلى الدندان، وسواليف النجديات. لأن هذه المادة الفلكلورية تربط الجماعات كشعوب بدائية أو ذات ثقافة شفوية بالشعوب الأخرى المتطورة ثقافياً (المأثورات الشعبية،الرفاعي، ص: 55)، فعلى سبيل المثال، لم تكن نجد معزولة عن بناتها شمالاً وشرقاً سواء منذ تدمر وبترا إلى الأردن أو الحيرة إلى الكويت أو منذ الكوفة والبصرة إلى الزبير. .. خلال الأجزاء الثلاثة الأولى من: أساطير شعبية أو حكايات شعبية، سيطرت المدونات السردية على الحكايات والحوارات ذوات الشخصيات المتنوعة من الحيوانات إلى البشر، فيما اتجه الجهيمان، بجرأة لم يقم بها أي مختص في دراسة الفلكلور خلال منتصف القرن العشرين، أن يدوِّن سوالفَ نبطية، أي حكايات بشعرها، حيث توفر للجهيمان، في الجزئين: الرابع والخامس، اللذين صدرا في السبعينيات من القرن الماضي ،جمع سوالف وأشعار لشخصيات معروفة في نجد والحجاز. إلا أننا نستثني محاولة لم تتم للمؤرخ مقبل الذكير (1300-1963/ 1880-1943)في كتاب لم ينجز في حياته وظل مخطوطاً اعتنى بالذاكرة الشعرية وحكاياتها لبناء البحث التاريخي في مخطوطته:العقود الدرية في تاريخ البلاد النجدية. الشيخ عبدالكريم الجهيمان مع الفنانين ناصر القصبي وعبدالله السدحان .. إن الكائن سواء في نجد أو الحجاز،ل م يكن غائباً إلا في مدونات التاريخ التي أرادت أن تبقي الجهل ، الدم والفتنة هي سجل حياته. لكأنهم أرادوا-كما يقول الفيلسوف عبد الله القصيمي، أن يكونوا هم: «أصحاب الروايات والمسرحيات ودواوين الشعر، ليديروا الحديث بكل أساليب الحوار وشخوصه الحادة المتزاحمة، وبكل تلفيقات الشاعر والقصاص وتحويماتهما، وبكل ما فيهما من إلحاح وبكاء وضراعة، وبكل ما فيهما من قدرة على دق الأبواب والوقوف على العتبات المحروسة بالخشونة والرفض وبكل معاني وتعبيرات الطرد والصد» (الإنسان يعصى، ص:202).فيما يقول الأستاذ عبد الكريم الجهيمان في مقدمة أساطير شعبية: «لم يكن عند آبائنا وأجدادنا وأجدادنا صحف ولا مجلات، ولا راديو ولا إذاعات، وليس لديهم سينما ولا منتديات، وبالجملة فليس لديهم أي لون من ألوان التسلية البريئة المعروفة في هذا العصر بحيث يملؤون بها أوقات فراغهم على قلتها: فقد كانت حياتهم منصبة على العمل [..]. إلا أنهم كانوا يقضونها نهاراً في الراحة أو بعض ألعاب القوى. وأما الفراغ في الليل فقد كانوا يقضونه في الحكايات والأساطير التي يصوغون فيها أحلامهم وأمانيهم ويحلقون بها في أجواء السماء وينطلقون بها إلى شتى أقطار الأرض منها لملء الفراغ ومنها التسلية ومنها إطلاق العنان للأماني والرغبات والأحلام..». ..إن عالم الميديا لإعلامية من المسموع والمرئي إلى المطبوع والشبكي لقادر على استيعاب وتلبية تلك الأماني والرغبات والأحلام التي كانت عتبات محروسة عند المؤرخين: بالجراد والخوف أو الفقر والمجاعة. ..شكراً، عبد الكريم الجهيمان لأنك حفظت نبضات قلب جزيرة العرب فيما صمت آخرون إزاء نزيفه. ---- * ألقيت في ثلوثية المشوح: تكريم عبد الكريم الجهيمان،20 ربيع الآخر 1427،18 نيسان 2006، تقديم: عبد الله الوشمي، مشاركة: سعد البواردي، محمد القشعمي، معجب الزهراني، حمود الربيعة. جانب من تكريم الأديب عبدالكريم الجهيمان الأديب عبدالكريم الجهيمان