في قلب وسط مدينة بوسطن، يتكئ مهندس برمجيات شاب حديث التخرج على جهاز الحاسب المحمول الخاص به في مقهى مزدحم، تقتحمه محادثات تضعه في مزيج من التفاؤل وعدم الارتياح حيث يناقش زملاءه الصعود المفاجئ لأدوات الذكاء الاصطناعي التي تبدو قادرة على استبدال المهام الروتينية بل مهن بأكملها، في مكان آخر، وبالتحديد في مدينة روتشستر في نيويورك، ينكشف مشهد لمدينة أكثر هدوءا. هناك، يتجول وكيل عقاري بالمشترين المحتملين الذين نزحوا باحثين عن فرص جديدة حيث يروج للمدينة كمركز ناشئ للمواهب التي تبحث عن فرصة تقلل من التعرض لاضطرابات العمل التي يحركها الذكاء الاصطناعي. تعكس هذه المشاهد ما وصفه بحث نشر مؤخرا عن تحولات الهجرة بين المدن نتيجة للطلب على العمالة في أميركا بعد ارتفاع الاعتماد على الذكاء الاصطناعي. في بحث يدرس تأثير النماذج اللغوية على حركة التوظيف والهجرة بين المدن، يقول الباحثان الاقتصاديان سكوت إبرامز وفرانك ليفي من جامعة لويزيانا وجامعة (أم آي تي) إن صدمة الإنتاج التي خلفتها نماذج اللغات الكبيرة ستؤدي إلى تغيير كبير في الهيكل الجغرافي للتوظيف في أميركا. حسب تقديراتهما، فإن الشريط الساحلي الحضري المتعلم تعليما عاليا سيواجه الاضطراب الأكبر. قياسا على التحولات السابقة، مثل انخفاض العمالة الصناعية الثقيلة في الثمانينيات، يتوقع إبرامز وليفي أن تزيد هجرة الجامعيين نحو الوسط الأقل تعرضا للاضطراب مثل روتشستر، نيويورك، وسافانا، جورجيا؛ وانخفاض الطلب على شهادات البكالوريس الجامعية؛ مما سيلقي بآثاره على التوزيع الجغرافي للتوجهات السياسية، حيث تخف حدة التباين بين الوسط المحافظ والأطراف الليبرالية. هذا النمط من التحول التقني ليس جديدا. عندما حولت الثورة الصناعية الزراعة بالمكننة، أجبر عدد لا يحصى من العمال على الخروج من المزارع والدخول إلى المدن المزدهرة. بعد عقود، أعاد ظهور السيارات الحديثة وشبكات الطرق الواسعة في الخمسينيات والستينيات الميلادية تشكيل المناظر الطبيعية الحضرية، مما أدى إلى نمو الضواحي ذات الامتداد الحضري المترامي الأطراف. في الآونة الأخيرة، أدت أتمتة المصانع والعولمة -بمساعدة الإنترنت- إلى تدمير مراكز التصنيع التقليدية، مما خلق تجويفات حضرية في أجزاء من الغرب الأوسط والجنوب الأميركي حيث تضاءل عدد السكان واختفت الفرص الاقتصادية. لطالما شكلت التقنية النسيج الجغرافي والاقتصادي للمجتمعات. واليوم يمثل ظهور نماذج اللغات الكبيرة فصلا آخر في هذا التحول. بينما يسعى المهنيون النازحون إلى الحصول على فرص جديدة مع تحول المتطلبات التعليمية، يكمن التحدي في إدارة هذا الانتقال، تظهر التجارب التاريخية السابقة أن لمثل هذه التحولات أن تعمق الانقسامات الاجتماعية أو تجدد من هيكلتها، كل ذلك يعتمد على إدارة هذا التحول الكبير، إذا تمكنت الحكومات والمؤسسات من تخفيف وتيرة التغيير ودعم التعديلات المنصفة، فإن لحظة الاضطراب هذه يمكن أن تمهد الطريق لجغرافيا اقتصادية أكثر توازنا وشمولا.