ثمّة ملفوظات تقوم على الوظيفة الإخبارية لتبليغ المعلومات، وهي وإن بدت وظيفة إلا أنّها ليست الوحيدة والغالبة، بل إنّ هناك طرقًا شتّى غير مباشرة لوصف التفاعلات اللغوية لدى الناس مثل تلك الملفوظات التي تُقدّم تحذيرًا، أو تحيةً، أو تأكيدًا لموعد، ونحوه ممّا يغلب عليه كلام الناس، ويذكرني هذا بمقولة الجرجاني: «الناس إنّما يُكلّم بعضُهم بعضًا ليعرف السامعُ غرض المتكلم ومقصوده، فينبغي أن يُنظر إلى مقصود المخبر من خبره ما هو ؟ أهو أن يُعلِم السامع المخبر به والمخبر عنه، أم أن يُعلمه إثبات المعنى المخبر به للمخبر عنه؟» ومثل هذه الطرق في التفاعل اللغوي تُسمّى (أفعالاً) وليست (أقولاً) بحسب نظرية أفعال الكلام (speech act) لدى أوستين 1955م. فالمتكلمون لا يكتفون بوصف حالة ما، وإنَّما ينجزون أفعالاً بهذه الأقوال التي تستدعي توجيهًا إلى أمر ما. إنَّ المتكلّم يُعبّر عن غاياته وأهدافه التي ينشدها من خلال ملفوظات غير متجردة أو معزولة عن المواقف التي تدور حول المجتمع. يقول يول (Yule) : «لا يُنتج الناس كلامًا يحوي تراكيب نحوية ومجرد ألفاظ في محاولتهم التعبير عن أنفسهم، بل يُنجزون أفعالاً عبر تلك الأقوال، وذلك عندما تحدث في موقف مقامي يكون لهم فيه قدر من السلطة التي تخولهم للتعبير عن هذه الأقوال أكثر من كونها مجرد عبارات». وهذه المصطلحات الوصفية لمختلف أنواع الأفعال الكلامية تعتمد على قصديّة المتكلّمين مع مواضعة قائمة عادةً بينهم وبين المتلقين أو الجماهير أثناء العملية التواصلية، وعادةً ما يسهمون جميعًا في هذه العملية من خلال مراعاة الظروف المحيطة بالكلام، وتُسمّى هذه الظروف وما تحويها من ملفوظات (الحدث الكلامي). وقد عمل سيرل (تلميذ أوستين) 1969م على تطوير عدّة مفاهيم؛ حيث مثّلت منطلقا لاستئناف النظر في ظواهر لغوية عديدة تتصل بدلالة الأقوال؛ وشكّلت محاضرات أكسفورد تطورًا مهمًّا في فلسفة اللغة واللسانيات من خلال تركيزها على السؤال عن استعمال الكلمات عوضًا عن البحث في المعاني المجردة, بعد أن درج المناطقة الوضعيون على اعتبار شروط الصدق المعيار الوحيد الذي يجب اعتماده في الحكم على الجملة من حيث دلالتها. ويُمثّل الفعل المضمن في القول عُمق الفعل الكلامي, ويرتبط بالقيمة التي تُمنح للكلام. ويتخطّى هذا الفعل محتوى القضية نحو تحقيق القصديّة والهدف الذي ينطوي على قوّة إنجازية تعمل على إعادة توجيه كلماتنا, فهو بذلك يُعدُّ ثمرة الممارسة التلفظية والهدف منها . وكان أوستين قد عرّف هذا الفعل بأنه ما يتحقق ونحن نقول شيئًا ما. ومعنى ذلك أنَّنا عندما نُنتج الأقوال فإنّنا نعمل على تشكيلها وفق وظيفة ذهنية يمثّل فيها هذا الفعل بُعدًا ثانيًا؛ إذ يُعدُّ هذا الفعل أهمَّ اكتشاف لأوستين، وهو قطب الرحى في نظرية أفعال الكلام، وبذلك فإنَّ هذا الفعل هو أصغر وحدة مكتملة في الاتصال اللغوي بين المتكلمين والمتلقين، ويضع سيرل لهذا الفعل شرطين هما : القصديّة والقواعد، فالقصدية هي التي تجعل إنتاج سلسلة لغوية ما ذات معنى وإحالةٍ معبِّرةً عن دلالة قصدية ومحققة لعمل لغوي قابل للفهم، وأما القواعد فهي التي تُسيّر هذه الأفعال الكلامية وتنشئها باعتبارها شكلاً من أشكال السلوك، لكونها قواعد تكوينية لا تُؤسِّس للنظام اللغوي فحسب، بل تؤسس لآلية ممارسته. ومع ذلك فإنَّ ما يُحدّد معنى الفعل الذي تضطلع به كلماتنا بشكل أكبر يعتمد على مفهوم أكثر دقّة وهو القوّة الإنجازية. حيث تُعد قوة الفعل الإنجازي الأكثر مناقشة في هذه النظرية، فعند إطلاق مصطلح الفعل الكلامي فإنّ تفسيره عادة وعلى مدى ضيق يعني القوّة الإنجازية فقط، فإذا كان مركز الاهتمام في نظرية الأفعال الكلامية مع أوستين تمثّل في الفعل المضمن في القول، فإنّ جوهر نظرية الأفعال الكلامية عند سيرل تمثّل في القوّة الإنجازية. فملفوظاتنا تُظهر قوى ذات درجات متفاوتة، وهو تفاوت ينتج عن أثر المقام من جهة والقصدية من جهة أخرى، وهذا بدوره يقودنا إلى مبدأ تعديل القوّة الإنجازية الضمنية. والحقيقة أنّ لغة الاستعمال الطبيعيّة تتطلب مثل هذا التعديل على الدوام في عملية تفاعليّة مع الحدث الكلامي؛ إذ من المُسلّم به في كل تفاعل لغوي أنَّ الكيفيّة التي نقول بها الأشياء تُعدُّ جزءًا ممّا نقوله. وهذه القوّة الإنجازية عادةً ما تتفاوت بين التقوية أو الإضعاف؛ حيث يمثل التوافق بين قضايا أفعال الكلام درجة من درجات القوّة، ولذلك تظلّ درجات القوّة الإنجازية نسبية، ويعمل المتلقّي على تأويل مدى هذه القوّة بتمثُّلها في استجاباته وردود أفعاله.