تنشأ الأقوال في مقامات خاصة تمنحها كفايات تواصلية تؤهلها لتأدية معانيها ودلالاتها، فالقول بذلك ليس صيغة تركيبية جامدة أو صورة بصرية أو سمعية منقطعة عن محيطها، وإنما معمار حي يتفاعل ويتحرك ويؤدي وظيفته، إن المقارنة بين القول في حيويته الوظيفية والجملة في صورتها التركيبية الجامدة مثل المقارنة بين الإنسان الحي وصورته الفوتوغرافية الجامدة المعلقة في مكان ما، وكذلك الأمر في القول والجملة، فالأولى تدل على حياة المعنى وتحوله إلى دلالة وظيفية مخصوصة، والأخرى إنما هي صورة جامدة لطور من أطوار المعنى، وما دمنا نقصد الدلالات ونفتش في المقاصد فيجب أن ندرس الأقوال وخطاباتها وليس الجمل ونصوصها، ويجب أن نبحث عن الدلالات الحية وليس المعاني الجامدة. وهذا درس يفحص المشهد التلفظي بكامله؛ فهو يبحث في المتكلم وحاله ويجلّي مقاصده وينظر في أطروحته ويبحث في طرق إقناعه ويفحص القول نفسه بحثاً عن مناويل حجاجية وتقنيات إقناعية ويحاول كشف الظروف الحافة وسياق القول وشروطه وينظر في المخاطب وحاله والأثر الذي نتج عنه. وحتى لا أذهب بعيداً في متاهات هذا الدرس ومفاهيمه فسأقصر حديثي على عنوان هذه المقالة وما جاء فيها من تحديدات؛ فالكلمة الأولى (حجاجية) تشير إلى انتساب هذه الممارسة إلى (الحجاج) وهو موضوع ومنهج، وتعرّفه مدرسة بيرلمان وتيتكاه بأنه «دراسة الفنيات الخطابية التي تمكّن من الحصول على موافقة العقول على الأطروحات التي تعرض عليها أو دعم موافقتها»، فهو تقنيات ووسائل خطابية مقصودة تحث المخاطب على الإذعان والقبول بالأطروحة، وليس منطقاً صورياً أو استدلالاً منطقياً مجرداً، كما أنه ليس مغالطة أو إيهاماً أو مناورة، مجاله الرأي والممكن وليس اليقين والمقطوع بصحته. وتقودنا الكلمة الأخيرة إلى (الخطاب)، وأقصد به ذلك الشكل المخصوص المتعلق باختيارات فردية أو اجتماعية في مقابل اللسان الذي يعني منظومة من القيم المقررة والقواعد المنضبطة. أما الكلمة الثانية (مقام)، فهو مصطلح لمفهومات متعددة، وهو يختلط اختلاطاً كبيراً بالسياق ويتداخل مع بعض عناصره، فهو يدل في كثير من الدراسات البلاغية على «مكان القول ومناسبته وأطرافه وظروف إنشائه والعوامل المباشرة وغير المباشرة في إنجازه»، وقد وجد قديماً في الدرس البلاغي العربي القديم ليشير إلى أوضاع القول الخطابية والاجتماعية وعلاقة المتكلم بالسامع؛ فللشعر مقام يختلف عن مقام الخطابة، وللجد مقام مغاير لمقام الهزل. غير أني أعني بالمقام هنا مفهوماً يتصل بأفعال الكلام، أي تلك المقامات الخطابية التي تتصل بمقاصد المتكلم الإنجازية، فكل الجمل تال ليكون لها قوة إنجازية وهي أفعال يقصد المتكلم إنجازها ويريد من المخاطب إدراكها، وقد حاول (أوستين) ضبطها في خمسة أصناف، ثم أعاد صياغتها تلميذه (سيرل) في أشكال أخرى، وما يهمنا من كل ذلك أن المتكلم بقول معين لابد أن يقصد به إنشاء فعل إنجازي محدد، وهو بذلك ينزل قوله في مقام له شروطه وقوانينه، فالمتكلم في مقام الإخبار غير المتكلم في مقام الوعد، فالأول يقصد إنشاء عمل إخباري ويضمن صدق دعواه في خطاب جاد، ليخبر به مخاطباً جاهلاً بهذه المعلومة مهتماً بها، أما المتكلم في مقام الوعد فإنه يقصد إنجاز التزام سلوكي معين في المستقبل، وهكذا تنخرط الأقوال في مقامات إنجازية يفهمها المخاطب ويستقى منها أجزاء مهمة لبناء دلالة القول وما يقصده المتكلم في خطابه. وقد يحدث في عمليات تأويلية أن يقتطع القول من مقامه الإنجازي ليزرع في مقام آخر في توجيه حجاجي مقصود ليشير إلى دلالات مغايرة، وهذا يجري عادة في مشاريع قراءة النصوص القديمة التي فقدت كثيراً من أجزاء ظروف إنشائها وسياقات تلفظها، إن تغيير المقام الإنجازي لقول معين فعالية حجاجية توجهه توجيها مختلفاً لما بنى عليه، فالأقوال التي نشأت في مقام البوحيات لتنجز أفعال مدح أو ذم ستتغير دلالاتها إذا نقلت إلى مقام الإخبار، والعكس صحيح؛ فمن ذلك ما جاء به بعض الوعاظ من أن قول يوسف عليه السلام في الآية الكريمة «قال أنا يوسف وهذا أخي معي» تواضعاً؛ إذ إنه لم يعرّف نفسه بالعزيز وإنما ذكر اسمه مجرداً، والمشيرات التلفظية وسياق القول تدلان على أن إجابة (يوسف) عليه السلام كانت في مقام إخباري؛ فهو قصد إنشاء إخبار لمخاطب يجهل هذه المعلومة ومهتم بها، ولذلك لم يقل (أنا العزيز)؛ لأنهم يعرفون ذلك سلفاً فلا حاجة أن يعيد هذه المعلومة إن كان قصده مجرد الإخبار. ومن فهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم «لولا الهجرة لكنت من الأنصار» أن الرسول ينشئ فعلاً إخبارياً بأن يتمنى أن يكون من الأنصار والدلائل المقامية تشير إلى أنه يمدحهم ويعبر لهم عن حبه وامتنانه فهو ينشئ فعلاً في مقام البوحيات. وقد يغدو الأمر في الآيات الكريمة والأح اديث الشريفة واضحاً وميسراً، فقد تراكمت الشروح والقراءات في ضبط مقاماتها وتجلية مقاصدها، لكن الحال يختلف في خطابات أخرى، ففي التراجم مثلاً نقرأ أقوالاً قديمة أعيد إنتاجها في مقامات مغايرة لتقودنا إلى دلالات جديدة، والقارئ لتراجم بعض التابعين ومجموعاتنالصالحين والأخيار يجد العجب العجاب؛ فهذا تابعي جليل في ترجمته أنه لم تفته تكبيرة الإحرام أربعين سنة، وذلك آخر من الصالحين أصابه الدبور في رجله أربعين مرة فما انفلت من صلاته، وقالوا في ترجمة عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه ضحك على قبر ابنه لمّا دفنه زيادة في صبره واحتسابه وكيداً للشيطان، ومثل هذه القصص كثير جداً في مصنفات التراجم وكتب الرقائق وقد تسرب بعضها إلى كتب التأريخ فحفظت وسافرت عبر المصنفات والنقولات حتى أصبحت جزءاً من خطابنا الوعظي، وأصبح بعضهم يحدث بها على أنها أقوال تنجز أفعالاً إخبارية تدّعي نقل الواقع القديم. والفاحص لكثير منها يجد بدون عسر أنها أقوال نشأت في مقامات بوحية لتنجز مدحاً أو ذماً، وهي أفعال تتعلق بشعور القائل وموقفه، فالقائل في مدح أبيه المتوفى أو شيخه الذي تتلمذ عليه: إنه كان أنبل رجل في الدنيا أو كانت الابتسامة لا تفارق محياه، أو كان لا يرى إلا صائماً، أو هو أشجع الرجال. ينجز إفصاحاً عن شعوره تجاه من قيلت فيه، والأمر كذلك في الذم، ومن الظلم أن نحاكم هذه الأقوال بمعيار الصدق أو الكذب، ونقل هذه الأقوال من مقاماتها البوحية واستزراعها في مقامات إخبارية في مصنفات تأريخية هو ما وجهها نحو دلالات جديدة، وهذا ما جعل سير بعض أعلامنا وتراجم بعض الصالحين تتحول إلى مبالغات وتهويل قد تفوق في شواهد منها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو خير البشر وأزكاهم.