أصبح الفساد من أخطر القضايا التي تواجه الدول، فهو المعطّل لمسيرة التنمية الشاملة، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لذا أولته الجمعية العامة للأمم المتحدة اهتمامها، ففي 31 أكتوبر عام 2003 أصدرت اتفاقية مكافحة الفساد، ودخلت حيز التنفيذ في ديسمبر 2005، حيث تعد هذه الاتفاقية متعددة الأطراف تتفاوض بشأنها الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وتضم 71 مادة مقسمة إلى 8 فصول على أن تقوم الدول الأطراف بتنفيذ عدة تدابير لمكافحة الفساد، التي قد تؤثر على القوانين والمؤسسات والممارسات. ولأهمية هذا الشأن، فقد شهد ملف مكافحة الفساد في المملكة تطوراً ملموساً انعكس على جهود الإصلاح التي تشهدها، في إطار عملية التحديث الشاملة التي طالت جميع مفاصل الدولة ضمن «رؤية السعودية 2030»، منذ موافقة مجلس الوزراء على تنظيم هيئة لمكافحة الفساد، وتعزيز مبدأ الشفافية ومواجهة الفساد المالي والإداري بشتى صوره، ونتيجة لجهودها أحرزت تقدماً بسبعة مراكز عالمية في ترتيب مؤشر مدركات الفساد «سي بي آي» لعام 2019 الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية، إذ حققت المركز 51 عالمياً من أصل 180 دولة، وتقدمت في مركزها بين مجموعة دول العشرين الاقتصادية لتحقق المركز العاشر. وتعد كلمة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظه الله-: "إن المملكة لا تقبل فساداً على أحد ولا ترضاه لأحد ولا تعطي أياً كان حصانة في قضايا الفساد"، منهج عمل واستراتيجية يتم الاسترشاد بها لمكافحة الفساد بكل أشكاله من خلال الإجراءات التي اتخذها -حفظه الله- لمكافحة الفساد. وظهرت ريادة المملكة خلال رئاستها مجموعة العشرين العام 2020، حيث أصدرت مبادرة الرياض الهادفة لإنشاء منصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم وأسهمت ب 10 ملايين دولار لإنشاء الشبكة؛ لتزرع نواة التعاون الدولي لمكافحة الفساد، من خلال منصة عالمية تربط بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم، وتوفر قواعد بيانات موثوقة، تعزز المعرفة وتفضح الفاسدين وتوثق أفعالهم، مع جهودها الحثيثة لضبط الأموال المنهوبة وإعادتها لخزينة الدولة، بما يسهم في تعزيز التنمية المستدامة، وخلق بيئة تتمتع بالنزاهة والشفافية والالتزام بالأنظمة والقوانين. الفساد يقتل التنمية وتظهر الدراسات، أن الفساد يساهم في إبطاء وتراجع معدلات النمو الاقتصادي من خلال قنوات عدة، فالفساد يقلل من الاحتياطات النقدية التي تشكل العامل الرئيس في عملية الإنتاج عن طريق انخفاض التدفقات الاستثمارية، حيث تشكل الرشى - مثلاً - ضغطاً إضافياً وتكلفة تزيد من كلفة الاستثمار وتقلل من عوائده، كما يعمل الفساد على تشويه هيكل الإنفاق الحكومي، فقد يلجأ المسؤولون الحكوميون الفاسدون إلى توجيه الموارد والإنفاق الحكومي نحو نشاطات غير منتجة، وبتكلفة اقتصادية أعلى وأولوية أقل، ولكنها تسهل عليهم الحصول على مكاسب أكبر، بدلاً من توجيهها نحو الأنشطة الإنتاجية ذات الفائدة الكبيرة للدولة وشعبها، من هنا، يؤثر الفساد على الكفاءة الاقتصادية التي تضمن الاستخدام الأمثل للموارد الاقتصادية والمالية، عن طريق سوء استخدامها وتشغيلها. ويبقى الفساد نوعاً من استغلال غير نظامي وقانوني للسلطة من قبل شخص أو أشخاص يشغلون مناصب عامة، بهدف تحقيق مصلحة شخصية أو جماعية، وتحقيق مكاسب غير مشروعة، ويمكن أن يكون هذا الشخص سياسيًا أو موظفًا حكوميًا، وقد يتمثل الفساد في تلقي رشى أو انتهاك القوانين أو تلاعب في العمليات المالية أو إساءة استغلال الموارد العامة. الفساد في الدول النامية وإذا كانت الدول الكبيرة تتأثر كثيراً من الفساد، فإن الدول النامية تعاني أكثر وأكثر، نظراً لتمتع الدول المتقدمة بمنظومة تشريعية ومؤسسية تعزز الجوانب الوقائية والنظامية من الفساد وتقلل من فرص وقوعه فيظهر التأثير الأكبر على اقتصادات الدول الفقيرة والنامية، لالتصاقه بحياة المواطنين فتزيد حالات الفقر والبطالة، وندرة التعليم، وكما تشير آخر استطلاعات الرأي لمنظمة الشفافية الدولية المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي كشفت أن هناك شخصاً من بين ثلاثة أشخاص قد دفع رشوة، ودائماً ما يتسبب الفساد في قصور تغطية الخدمات الحكومية والخاصة، وترهل البنية الأساسية ونوعيتها وجودتها، مؤدياً إلى خفض معدلات النمو الاقتصادي، كما يساهم في زيادة البطالة، نتيجة خفض معدلات النمو الاقتصادي وتراجع معدلات نمو التوظيف وازدياد معدلات البطالة، ويؤدي إلى انخفاض إنتاجية العمالة وتراجع الدخول، والمواءمة بين المهارات والوظائف، مما يخفض من الإنتاجية، ويقلل من معدلات نمو الناتج المحلي بشكل مؤثر. ويؤدي الفساد في الاقتصاد إلى زيادة الفقر وسوء توزيع الدخل، ورفع تكاليف المعيشة، حيث يتم زيادة عمولات ومدفوعات الفساد من تكاليف الأنشطة الاقتصادية، التي تضاف إلى أسعار السلع والخدمات، وتدفع معدلات التضخم وتكاليف المعيشة إلى مستويات أعلى، ويؤثر الفساد بدرجة أكبر على الفقراء، حيث يقود عدم استطاعتهم لدفع الرشى وضعف علاقاتهم بالمسؤولين الحكوميين إلى فقدانهم الكثير من حقوقهم، مما يفاقم من مشكلات الفقر، ويزيد من تباين الدخول بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، ومن ثم تنخفض عدالة توزيع الدخل بين هذه الشرائح، ومن أهم نتائج الفساد التعدي على حقوق الإنسان، حيث تكثر في الدول الفاسدة حالات الظلم والتعدي على حقوق الإنسان، والإضرار بأحوال وحقوق الضعفاء، والتي يقوم بها الفاسدون والمفسدون. إن تراجع مستويات العدالة الاجتماعية، وعدم المساواة بين أفراد البلد بسبب الفساد، مما قد يولد حنقاً وحقداً وحسداً بين المكونات الاجتماعية، ما يهدد السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي، إلى جانب خفض مستويات المنافسة الحرة في الاقتصاد لتحقيق مكاسب شخصية، ويؤدي ذلك إلى تراجع الثقة بالمؤسسات، حيث تعد فعالية المؤسسات الحكومية من المتطلبات الأساسية للتنمية والعدالة، وتتطلب فعالية الأنظمة الحكومية ثقة المجتمع بالمؤسسات الحكومية وقدرتها على تنفيذ البرامج الحكومية بأمانة وإخلاص، تفيد كل مكونات المجتمع. الفساد الإداري ورم خبيث في الوقت الذي يعد الفساد الإداري ظاهرة تنتشر في مختلف المجتمعات والقطاعات المختلفة بنسب متفاوتة، وتتمثل صوره في سوء استخدام المناصب والوظائف العامة أو الخاصة، لتحقيق مصالح شخصية أو جماعية، بطرق غير نظامية أو أخلاقية، ويتم تعريف الفساد الإداري على أنه سلوك يمارسه أفراد يتولون مسؤوليات في الحكومة أو الشركات أو أي مؤسسة أخرى، ويهدفون من خلاله إلى تحقيق مكاسب شخصية لأنفسهم أو لأقربائهم، وذلك عبر استغلال السلطة الممنوحة لهم، بينما يرى خبراء اقتصاديون أنه ورم خبيث في جسد اقتصادات الدول على اختلاف قوتها. ويهدف مشروع اتفاقية الأممالمتحدة لمنع الفساد إلى تعزيز الجهود الدولية في مكافحة الفساد الإداري، وقد قام بتعريف الفساد الإداري على أنه القيام بأعمال تمثل أداءً غير سليم للواجب، أو استغلالاً للموقع أو المنصب أو السلطة، بما في ذلك الأفعال التي تُعد تلاعبًا بالتوقيعات للحصول على ميزة شخصية أو تعرضًا للحصول على مكاسب غير قانونية، سواء كان ذلك من خلال تلقي مزايا غير مشروعة أو بحثًا عنها، أو بطلبها بشكل مباشر أو غير مباشر، أو من خلال قبول مزايا تمنح سواء للشخص نفسه أو لصالح شخص آخر. ويتسبب الفساد الإداري في مجموعة من الآثار السلبية، التي تنتشر في المجتمع، وتؤثر بشكل سلبي على التنمية والنمو الاقتصادي، ومن أهم مظاهر ذلك الإضرار بصدقية الدولة ومؤسساتها المختلفة، فعندما ينتشر الفساد الإداري والمالي، يتضرر النظام الرسمي للعمل وتتلاشى القواعد واللوائح التي تهدف إلى تحقيق أهداف الدولة، ويؤدي ذلك إلى فقدان الثقة في الأجهزة الإدارية وتراجع الاعتماد عليها من قبل المواطنين والمتعاملين معها، إضافة إلى اتساع دائرة الفساد يضعف الهياكل الإدارية والنظام الإداري في الدولة، مما يؤدي إلى فشل النظام الإداري بأكمله، ومن ثم عرقلة عملية التنمية وضعف النمو الاقتصادي، كما يساهم في تعطيل جهود التنمية وعرقلة التقدم في المجتمع، لذا أصبح الفساد الإداري من أكبر التحديات والعوائق التي تعترض مسيرة التنمية في أي دولة، كما يؤثر الفساد الإداري في عرقلة النمو الاقتصادي، وخفض معدلات الاستثمار الداخلي والخارجي، حيث إن الرشوة التي يُرغم عليها رجال الأعمال؛ نتيجة للفساد الإداري، فتُعد بمثابة ضرائب إضافية عليهم، مما يدفعهم إلى تقليص استثماراتهم في الدول التي ينتشر فيها الفساد. الفساد الإداري والاستقرار السياسي من المخاطر الكبرى التي يتسبب فيها الفساد التأثير السلبي على القرار السياسي، بل والاستقرار السياسي والاجتماعي على السواء، فعندما ينتشر الفساد، يتعرض الاستقرار السياسي للخطر، وينخفض مستوى الدخل وتتصاعد الصراعات داخل المجتمعات، ومن ثم تتسع دائرة المفسدين، فتتلاشى هوية الجهاز الإداري وتصبح الأنظمة الفاسدة هي المهيمنة داخله، فيعمل المستفيدون من الفساد على نشره في أكبر عدد ممكن من الأجهزة والمؤسسات الحكومية، ويتم دعمهم في ذلك نتيجة عدم المحاسبة والمساءلة النظامية والقانونية. وتتطلب مكافحة الفساد جهودًا مستمرة، تشمل التشريعات القوية، والتوعية الشاملة، والرقابة الفعالة، وتعاون الدول والمنظمات الدولية. من خلال هذه الجهود المشتركة، يمكن الحد من ظاهرة الفساد وتعزيز النزاهة والمساءلة في مجتمعاتنا. إن حماية النزاهة ومكافحة الفساد تستلزم وجود برامج إصلاح شاملة تحظى بدعم سياسي قوي، وتكتسب رؤية استراتيجية تقوم على تشخيص المشكلة ومعالجة أسبابها وتعاون الأجهزة الحكومية ومشاركة المجتمع ومؤسساته وإرساء المبادئ والقيم الأخلاقية للإدارة والمجتمع وتعزيزها والاستفادة من الخبرات الدولية في برامج مواجهتها. وتظل حماية النزاهة ومكافحة الفساد بجميع أشكاله هدفاً أسمى، ترسيه المبادئ الثابتة في الشريعة الإسلامية والأنظمة الدولية، وهذا ما يميز المملكة التي تستمد أنظمتها من مبادئ وأحكام الشريعة الإسلامية، التي عنيت بحماية النزاهة والأمانة والتحذير من الفساد ومحاربته بكل صوره وأشكاله، ومن هذا المنطلق حرصت المملكة على مشاركة المجتمع الدولي اهتمامه في محاربة الفساد من خلال حرصها على عقد الاتفاقيات وحضور المؤتمرات والندوات وتعزيز التعاون الدولي، مع تقوية الجبهة الداخلية بقيم دينية واجتماعية وسياسية أيضاً، مع إصدار العديد من التشريعات والمبادرات التي تهدف إلى مكافحة الفساد وتقييد نشاطه، كما تُوجه الجهود التربوية والإعلامية؛ لزيادة الوعي في المجتمعات حول الأضرار الجسيمة التي يسببها الفساد ويقوّض أركان المجتمع. الفساد يعطل مشروعات يحتاجها الوطن والمواطن الاقتصاد العالمي يتأثر بمختلف أنواع الفساد