قدَّمَ التاريخ الشفهي والمكتوب حكايات لضحايا العشق والحب ومنهم من مات أبطالها بداء العشق للمحبوبة كقيْس بن المُلوَّح، ومنهم من مات أبطالها بعشق الأماكن والمرابع والديار. وفي رواية شعبية وجدتها في كتاب «الفنار» للباحث السعودي علي بن سليمان البلوي فماتتْ العاشقة حسرة على فراق مرابع مَرْبَاها؛ وتقول الرواية عن قصة وقعت أحداثها كما يقال لعربانٍ سكنوا في منطقة محصورة ما بين جنوب مدينة الوجه وشمال مدينة أملج يتنقلون بين مواقعها كباقي العربان. طال فيهم الأمد حتى كَبُر أبنائهم فيها؛ فقررا لظروف القحط والجوع التي مرّوا بها الرحيل لمصر؛ وكان لهم إبل ضائعة ولعجلتهم قرروا تركها. ولهم أخت اسمها- عصماء- أُشْرِبَ فؤادها بالمكان عشقا فحزِنت حزنا شديدا لترك الديار؛ وترى أن تركها أمرا ثقيلا على قلبها؛ وتعلم يقينا أنَّ أهلها لن يتركوها وحيدة هنا؛ فأخبرتهم أنها لن ترحل معهم فهي لا تقدر على فراق المرابع التي عاشت فيها وقالت لهم- أموت هنا ولن أرحل عن هذه الديار- فلمْ يأْبه بها أحد؛ هدَمَ القوم الخيام وحمَّلوها على ظهور الإبل للرحيل فجرا. وهربت عصماء خلسة وعرفت الأم بهروبها وأخبرت أخوتها؛ فأجّلوا الرحيل وتتبّعوا أثرها وتسلقوا الجبال خلفها وبحثوا عنها ونادوا عليها فلم ترُد؛ مرّت أيام من البحث فظن الإخوة أنها لن تعيش كل هذه الأيام دون طعام أو ماء أو أكلتها الوحوش البرِّية في هذه الظروف الصعبة التي أصابت السباع بالسعار فرحلوا متيقنين موتها. أمَّا عصماء فكانت متوارية في كهف في جبال وادي الشبرمية قرب محافظة الوجه وعاشت تأكل من الأسيلة المالحة؛ ولمّا تأكد لها أن المكان خلاَ من البشر خرجت تمشي بين المواقع حتَّى وصلت لوادي الحمض فوجدت إبل أهلها الضائعة جمعتها وسكنت قرب الأسيلة تعيش من شُرْبِ لبنها الشحيح ؛ صارت تسرح بالإبل من الأبارق إلى الأملح العريان على ساحل البحر الأحمر وأحيانا تتركها ترعى نفسها؛ مرّت سنوات تغيرت فيها ملامح عصماء تبدو هزيلة كهيكل عظمي بسبب الجوع ولِباسها من وبر الإبل بالكاد يسترها. رأت ذات يوم أنَّ الإبل تَدرُّ الحليب فاستغربتْ وتوجَّهتْ للساحلِ فوجدت جرادا ميتا شَبَعت منه الإبل فدرَّتْ الحليب وأنقذت الفتاة من الهلاك؛ مرَّ بالمكان رجل قادم من الحج متوجها لمصر فشاهد أثَراً على ساحل البحر فاستغرب وجود انسان في هذا المكان الخالي من العربان؛ تتبَّعه ورأى غربان تحوم على مكان فعرف أنَّ فيه إنسان؛ وعندما اقترب شاهد هيكل فتاة تستر نفسها بالوبر وتسوق الكثير من الإبل فتركها وواصل طريقه لمصر؛ وهناك تحدَّث عن ما رآه. تناقلت الناس الخبر حتى وصل لإخوتها فظنوا أنها أختهم لأنه مكان مرابعهم الذي تركوا أختهم فيه فتوجهوا له ووجدوا الأثر واقتَفوه ورأوا غربان تحوم على موقع فقصدوه ووجدوا فيه امرأة كأنها هيكل عظمي؛ تأكدوا إنّها أُختهم؛ فخرجوا لها ولمّا لَمِحَتهم هرَبتْ وحاولوا الإمساك بها لكن جَمَلها حال بينهم وبينها لينقذها؛ فتواروا عنه خلف الأشجار ينادونها ويعدونها بالأمان وقالوا لها- إعْقلي جملكِ عنَّا وسنترككِ تعيشين هنا بعد أن نوفر لكِ سبل العيش ونطْمَئِن عليكِ - صدقتهم وعقَلت الجمل واقتربوا منها لكنهم أمسكوها وقيدوها. سألتهم: من دلكم على مكاني؟ فأخبروها بقصة الحاج والغربان. جمع الأخوة الإبل وأركبوا عصماء مقيدة على إحدى الرواحل عائدين بها إلى مكان هجرتهم بمصر؛ وقبل أنْ يخرجوا مِنْ الديار نادتهم وطَلبتْ منهم أنْ يُنْزْلُوها ويَحِلُّوا وثاقها بعد أن وعدتهم بعدم الهرب؛ فلما أنزلوها وفكَّوا قيدها جلست على الأرض تُبْحِرُ بنظرها على المكان وكأنها تودِّعه ونظرت للغراب فقالت: ملعين أبو من شاف بيض الغراب وخلاه ينمي جعل ما تنمي له دار وغصت روحها ألما وحزنا على فراق الديار التي شهدت ولادتها وطفولتها وعاشت على ثراها وبين دروبها جبالها ترعى إبلها وأغنامها في روابيها فقالت وجدا عليها: من الأملح العريان ترعى وتنثني إلى السرحة الدوفا سنود الابارقِ وتِرْدْ منه بين الحويين سيلة عليه العذار بالثياب الأزارقِ وتمددت تحتضر الموت حسرة على فراق ديارها وحاول أخوتها رفعها عن الأرض لكنها فارقت الحياة وماتت؛ فحفروا قبرا ودفنوها في سرحة ما زال قبرها موجدا فيه حتى يومنا هذا قرب مدينة الوجه وتُسمَّى بسرحة البنت، وفي مثل هذا قالوا في المثل الشعبي: المَرْبَى قتَّال. «سرحة البنت»: موقع يقال له السرحة وفيه قبر الفتاة المشهور بهذه الرواية في المنطقة. الإبل على ضفاف البحر الأحمر الفنار للباحث علي البلوي أحد أودية مدينة الوجه