تعفن الدماغ ليس مجرد مصطلح لغوي بل هو حقيقة علمية تشير إلى أزمة عميقة تواجهها العقول البشرية. ما يحدد مستقبلنا ليس فقط قدرتنا على إنتاج التكنولوجيا، براءات الاختراع والابتكار، بل على استخدام هذه التكنولوجيا بطريقة تُحافظ على صحة العقل وتُعزز قدراته.. مع إعلان قواميس أكسفورد عن اعتماد مصطلح "تعفن الدماغ" ككلمة العام 2024، بات هذا المصطلح يتردد كناقوس خطر يحذر من تدهور القدرات العقلية للبشر في مواجهة زخم الحياة الرقمية. يُعبر هذا المصطلح عن الانحدار الحاد في الأداء العقلي، الذي يتجلى في ضعف التركيز، تراجع التفكير النقدي، وتدهور مهارات حل المشكلات، نتيجة الإدمان الرقمي والاستخدام المفرط للتكنولوجيا. هذا الإعلان ليس مجرد اختيار لغوي، بل هو تأكيد على أن هذه الظاهرة أصبحت واقعًا ملموسًا يهدد مستقبل الأجيال. في السنوات الأخيرة، أظهرت الأبحاث العلمية أن الإدمان الرقمي يمكن أن يُحدث تغيرات جذرية في بنية الدماغ البشري. دراسة نشرتها مجلة Nature Communications في عام 2022 كشفت أن التعرض المفرط للمحتوى السريع على تطبيقات مثل "تيك توك" و"سناب شات" يُضعف الروابط العصبية المسؤولة عن التركيز والتفكير العميق. وفقًا للدراسة، فإن المستخدمين الذين يقضون أكثر من ثلاث ساعات يوميًا على هذه المنصات يظهرون انخفاضًا بنسبة 30 % في كفاءة الذاكرة قصيرة الأجل، بالإضافة إلى تراجع قدرتهم على الاحتفاظ بالمعلومات وتحليلها. هذه النتائج تتفق مع تجربتي العملية كبروفيسور زائر في معهد الدماغ والتغذية البشرية ب"إمبريال كوليدج" في لندن. خلال عملي في هذا المجال، ركزت أبحاثنا على تحليل الترددات الموجية للدماغ وتأثير المحتوى الرقمي على النشاط العقلي. أظهرت الدراسات أن الترددات الدماغية تصبح غير متوازنة مع التعرض الطويل للمؤثرات الرقمية المشتتة، مما يؤدي إلى تدهور قدرة الدماغ على معالجة الأفكار والمشاكل بشكل منظم. منذ أكثر من ثماني سنوات، انخرطت في العمل على تدريب القدرات الذهنية من خلال تأسيس وإدارة مركز "ثنك هب"، الذي كان الأول من نوعه في الشرق الأوسط. في هذا المركز، تمحورت جهودنا حول تقوية الأداء العقلي وتحفيز التفكير الإبداعي، التركيز، الذاكرة واتخاذ القرار بعيدًا عن التشتيت الرقمي الذي أصبح السمة البارزة لهذا العصر. خلال عملي مع مئات الأفراد، لاحظت الفارق الجوهري بين الأدمغة التي استطاعت التحرر من قيود الإدمان الإلكتروني وتلك التي تأثرت سلبًا. أما على صعيد البحث العلمي، كبروفيسور زائر في معهد الدماغ والتغذية البشرية في "إمبريال كوليدج" بلندن، ركزت أبحاثنا على القدرات الذهنية المعقدة و"فيزياء الدماغ"، وهو مجال يعتمد على حساب الترددات الموجية للدماغ وتحليلها علميًا. كانت هذه الأبحاث بمثابة نافذة لفهم أعمق لكيفية تأثير البيئة الرقمية على الدماغ البشري. أظهرت النتائج أن الترددات الدماغية، التي تعكس الأنماط الذهنية، تتعرض للتشويه عند التعرض المستمر للمحتوى الرقمي السريع، مثل ذلك الذي توفره تطبيقات "تيك توك" و"سناب شات". هذا التشويه يضعف قدرة الدماغ على التركيز والاستيعاب العميق. من المثير للتأمل أن منطقة الخليج العربي تُعد من أكثر المناطق في العالم استخدامًا لتطبيقات التواصل الاجتماعي، خاصة "سناب شات" و"تيك توك". هذه المنصات، التي تُشجع على استهلاك المحتوى السريع والمثير، تخلق تحديًا فريدًا للمجتمعات الخليجية، حيث تتقاطع الطموحات التنموية مع الحاجة إلى مواجهة تأثير الإدمان الرقمي. الاستخدام المفرط لهذه التطبيقات، خاصة بين الشباب، ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل يُشكل خطرًا طويل الأمد على القدرات الذهنية والابتكار الذي تحتاجه المنطقة لتحقيق رؤاها المستقبلية. من الواضح أن الإدمان الإلكتروني لا يُفقد الأفراد قدرتهم على التركيز فقط، بل يُضعف إدراكهم للقيمة الحقيقية للزمن والمعلومات. لقد أصبح المحتوى الرقمي السريع أشبه بالمخدر العقلي الذي يستهلك الوقت دون تقديم فائدة حقيقية. وعلى الرغم من وعي الكثيرين بخطر هذه الظاهرة، إلا أن الحلول غالبًا ما تكون سطحية. من المفارقات الساخرة أن الأشخاص الذين ساهموا بشكل مباشر في انتشار تعفن الدماغ هم أنفسهم يتحدثون عن هذه الظاهرة في مقاطع قصيرة تزيد من تفاقمها، مما يعكس تناقضًا محبطًا بين المشكلة وطرق معالجتها. هذا مع احترامنا لكل من ساهم في نشر كل محتوى نافع ومفيد. لكن الخطر الأكبر لا يكمن فقط في التأثير الفردي لهذا الإدمان، بل في انعكاساته المجتمعية. العقول المُشتتة لا تُنتج أفكارًا مبدعة ولا تُساهم في تحقيق التغيير. في ظل هذا الواقع، لا يمكن أن يكون الحل في مقاومة التكنولوجيا نفسها، بل في إعادة توجيه استخدامها نحو ما يُعزز التفكير النقدي والقدرة على التحليل. إذا أردنا مواجهة هذه الأزمة، فإن الحل يبدأ من داخل العقول نفسها. يجب تعزيز الوعي بالمخاطر الحقيقية للإدمان الرقمي، خاصة بين الفئات الشابة، مع توفير بدائل تُشجع على التفكير العميق. لا يمكن تحقيق ذلك دون جهد متكامل يجمع بين البحث العلمي والتعليم والإعلام، بهدف خلق بيئة تُحفز على استخدام التكنولوجيا بشكل واعٍ ومسؤول. تعفن الدماغ ليس مصيرًا محتمًا، بل تحديًا يتطلب التوازن بين التقدم التكنولوجي والحفاظ على صحة العقل البشري. إذا تمكنا من تحقيق هذا التوازن، فإن العقول التي تواجه اليوم خطر التعفن قد تتحول إلى قوى دافعة نحو مستقبل أكثر وعيًا وإبداعًا. أما في منطقتنا العربية، تُظهر الإحصاءات أن دول الخليج تُعد من بين أعلى المناطق في العالم استخدامًا لوسائل التواصل الاجتماعي. تقرير صادر عن We Are Social في عام 2023 يشير إلى أن متوسط الوقت اليومي الذي يقضيه الفرد في الخليج على المنصات الرقمية يصل إلى خمس - ست ساعات، مقارنة بالمعدل العالمي البالغ ثلاث ساعات. يعتبر "سناب شات" و"تيك توك" من أكثر التطبيقات شعبية في المنطقة، حيث يتصدران قوائم الاستخدام بين الفئات العمرية الشابة. هذا الإدمان الرقمي قد يبدو كوسيلة ترفيه بريئة، لكنه يحمل في طياته مخاطر طويلة الأمد. الشباب، الذين يمثلون غالبية سكان الخليج، فهم العمود الفقري لمشروعات التنمية المستقبلية، مثل رؤية السعودية 2030. ومع ذلك، فإن استنزاف عقولهم في محتوى سطحي ومشتت يمكن أن يضعف قدرتهم على الابتكار وتحقيق تلك الرؤى الطموحة. لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا الرقمية أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، ومن المستحيل العودة إلى الوراء. ومع ذلك، هناك حلول عملية يمكن تبنيها للحد من تأثير تعفن الدماغ على الأفراد والمجتمعات. 1. التوازن بين الاستخدام الرقمي والنشاط العقلي: يجب تشجيع الشباب على تخصيص أوقات لأنشطة تعزز التفكير النقدي، والإبداعي مثل القراءة، التأمل، وممارسة الرياضة الذهنية. دراسات عديدة أكدت أن تقليل وقت الشاشة بمقدار ساعة يوميًا يُحسن التركيز بنسبة تصل إلى 20 %. 1. تعزيز المحتوى الهادف: على الحكومات والإعلام والمجتمعات أن تدعم منصات تقدم محتوى تعليميًا ومُلهمًا بدلًا من التركيز على الإثارة السريعة والمحتوى الخاوي. إن المبادرات التي تمزج بين الترفيه والمعرفة يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في هذا الصدد. 2. زيادة الوعي بالمخاطر: حملات التوعية يجب أن تستهدف الأهل والمعلمين والشباب، لتوضيح التأثيرات السلبية للإدمان الرقمي وكيفية تفاديها. فمن المهم بناء وعي جماعي حول أهمية ضبط الوقت المخصص لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. تعفن الدماغ ليس مجرد مصطلح لغوي بل هو حقيقة علمية تشير إلى أزمة عميقة تواجهها العقول البشرية. ما يحدد مستقبلنا ليس فقط قدرتنا على إنتاج التكنولوجيا، براءات الاختراع والابتكار، بل على استخدام هذه التكنولوجيا بطريقة تُحافظ على صحة العقل وتُعزز قدراته. نحن الآن أمام خياران: إما أن نسمح للعقول بالذوبان في دوامة الرقمية، أو أن نختار التوازن، فنصنع عقولًا أقوى وأكثر إبداعًا تواكب هذا العصر المتسارع. وللحديث بقية..