الحديث عن سقراط ت 399 ق.م مرتبط بتميز لحظة الزمن الأثيني وما رافقه من تداعيات تاريخية أفرزت معطيات ميلاد هذا الفيلسوف وحددت مصيره لاحقا. برز سقراط في ظل تميز سياسي عرفته اليونان هو انتصارات أثينا العسكرية وانتقال نظام الحكم من يد الطبقة الأرستقراطية صوب توجه ديمقراطي (ديموس كراتوس)، احتدم التنافس وتقوى الجدل القضائي والسياسي، كما برز معلمو البيان والخطابة وهم جماعة السوفسطائيين الذين شكلوا مدرسة معاصرة لسقراط، من أشهر روادها جورجياس وكاليكيس وبروتاغوراس، لقد عُرفوا بتشكيكهم في أسس المعرفة والأخلاق وتأكيد نسبوية أساسها أن «الإنسان مقياس الأشياء جميعا ما يوجد منها وما لا يوجد» محاولين تقويض دعائم ثبات المعرفة، كما عمدوا إلى التأثير الخطابي على الجماهير وتعليم فن الانتصار على الخصوم ولو باستخدام المغالطات، توجه لم يرضِ سقراط الذي تحامل على السوفسطائية مستشعرا تهديدها لبنيان المجتمع الأثيني، وهو المعروف بولائه لموطنه -كان جنديا حارب باسم أثينا، مقدرا ومحترما لقوانين الدولة- لذلك اتجه إلى الشباب بالدرجة الأولى مطبقا منهجه المعروف بالتهكم والتوليد، يقصد بالتهكم ادعاء الجهل والتسليم بمسلمات المحاور أما التوليد فهو استخراج الأفكار والمعاني وتطهير النفس من الاعتقادات المترسبة حتى يتفق الطرفان على تأسيس معرفي رصين، لم يهمه الانتصار على محاوريه بل تحفيزهم للتفكير في مسلماتهم، يقول أنا أولد الأفكار من نفوس الرجال كما كانت أمي قابلة تولد النساء، هنا التأكيد على فضيلة المعرفة الممكنة التي يخالف بها منهج السفسطائيين القائم على التلقين والإلقاء، توجه عبر عنه سقراط بشعار حكمة معبد دلفي «اعرف نفسك بنفسك»، لقد أكد إمكانية الوصول إلى الحقيقة والحكمة من خلال العقل الذي يضبط التصورات والتعاريف التي تؤسس عليها القناعات، كما انتقد ديمقراطية الغوغاء المبنية على انتخابات جماعية، تسبق الجهلة للحسم في القرارات، هذا الطرح يتفق فيه مع هيراقليطس ت 480 ق.م الذي كان من أشد المعارضين للتحولات الذي عرفتها مدينته أفسوس حليفة أثينا، معلنا عداءه الصريح للديمقراطية واحتقاره العميق للعامة الجهال، فتحت غطاء نصرة الديمقراطية كانت هناك تصفيات للأعيان الأوليغارشيين، كما نقم هراقليطس من أهل أفسوس لنفيهم صديقه هرمودورس. إن الصدام السوفسطائي السقراطي ظهرت تداعياته في الدعوى القضائية التي رفعها ضده خصومه الثلاث مليتو، وليكون وأنيتس الذين استمالوا العامة بتوجههم الخطابي المتهم لسقراط بإفساد عقول الشباب والإساءة لآلهة المدينة، لم يشفع للفيلسوف منصبه السابق في مجلس الشيوخ، فالمحاكمة كانت قوية وحادة قابلها سقراط باتزان وهدوء.. لم يتوسل طالبا العفو والصفح بل كان مقوضا لحججهم وساخرا من توجههم مما أغضب اللجنة العليا المُحَاكمة المستدعية لخمس مئة شخص من المواطنين الأثينيين من مختلف الطبقات (لم يكن يسمح للنساء والعبيد والمقيمين بالتصويت)، وصف تلميذه أفلاطون وقائع المحاكمة في محاورات الدفاع واقريطونوفيدون، مبينا فوز المصوتين بالإعدام والتخلص من سقراط مسموما عقابا له، لقد رفض حتى النهاية الاعتراف بخطئه واستجداء محاكميه بل عارض نصيحة تلامذته بالهروب من السجن معبرا عن صدق امتثاله للقوانين، كانت النهاية مقتل سقراط بشعار حكم الكثرة الغالبة، لكننا نعتقد أن هذه المحاكمة أحيته أكثر مما قتلته إذ خلد عبر تاريخ الفكر تحت مسمى شهيد الفلسفة، وكان لنهايته تأثير قوي على تلاميذه وأشهرهم أفلاطون الذي كتب محاوراته، كون سقراط ترفع عن الكتابة واعتبر أن الحقيقة تتجاوز المدون، لقد انتقد أفلاطون الديمقراطية الأثينية الشعبوية التي ضحت بالعقل ممثلا في أستاذه، وكان كم التصويت دون الكيف هو الفيصل. كما اتضح هذا الامتداد الفكري مع مدارس سقراطية متعددة في مسارها وأبرزهم الكلبيون والقورينائيون والميغاريون الذين عمدوا لتأويل الفكر السقراطي وفلسفته كل حسب فهمه، لقد كان لواقعة موت سقراط تأثير على مدى تاريخ الفكر الفلسفي فكان مثال العقل المستنير الذي تجاوز زمانه ورمز المفكر الاستثنائي الذي لم تستوعبه أبعاد المكان وخصوصيات المرحلة، يحتفل سنويا بذكرى إعدامه في 15 فبراير في تأكيد لأهمية حضوره في الفلسفة الغربية وكيف أنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض، من التفكير في الطبيعيات إلى الأبعاد المعرفية والخلقية للإنسان وهو القائل أن الفضيلة هي المعرفة والرذيلة جهلا، ساعيا لتأسيس الحقيقة بادراك تناقض الاعتقادات. يبدو أن الدهماء التي صوتت ضده باسم ديموس كراتوس قد وهبته حضور القديسين ودافعا لمرجعيات فلسفية غربية تؤصل لتراثها بمنعطفات اللحظة السقراطية. سقراط د. زهية عتوتي