نتناول الفن المسرحي، نصاً أو عرضاً، بتناول الفكر المسرحي الذي يحيطه والفلسفة التي تنضح بها جوانبه والتي يترقبها الدارسون عبر العصور لكشف عمق هذه المجتمعات وفكرها وما يحيط بها من مؤثرات، كما أن المدارس الفلسفية تعمل في المسرح بفاعلية الأواني المستطرقة بلا حدود لأن المسرح لا وطن له في عمقه المعرفي وهو ما يميزه كفن إنساني بحت.. إذا ما أردنا نهضة للفنون بصفة عامة، فلا بد من نهضة موازية للنقد المسرحي بصفة خاصة، ذلك لأن الفن المسرحي يقوم على الفلسفة كإحدى دعائمه الرئيسة. فإذا كانت تناولاتنا للنقد وتطوره تحتم على الناقد الإلمام بجميع فروع المعرفة خاصة الفلسفة كما أسلفنا، فإن متابعة الحقول الفلسفية منذ نشأتها حتى الآن أمر مرهق، ولكننا لا نأخذ من هذه الاتجاهات إلا ما كان لها انعكاسات على النقد والنظريات النقدية وما انعكس منها على البنى الاجتماعية عبر العصور. وإذا بدأنا بالنقد والفلسفة الإغريقية فهذا لا يعني أنه ليست هناك اتجاهات ومحاور فلسفية قبل ذلك، ولكننا نركز على آليات الخطاب ومدى استقباله والأنس المعرفي تجاه هذه الرسائل. فلا نعتقد إننا نجافي الحقائق الموضوعية في السياق التاريخي القديم إذا أكدنا منذ البدء على أن الإغريق ليسوا وحدهم من أوائل محرري الفكر والتساؤل عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل رغم دورهم البارز في هذا الجانب، ذلك لأن الحضارات السابقة على الإغريق لم يكن التفكير عندها مجرد تفكير من النوع العملي المباشر فقط. حيث إن هذا الجانب العملي في الفلسفة الشرقية القديمة لم يكن سوى نتاجاً لأسلوب الحياة القائم على المركزية بما يتوافق مع نظام الرق أو الأسلوب الآسيوي الذي ساد في بلادنا إبان تلك المرحلة في الألف الرابع والثالث قبل الميلاد. فإذا رجعنا إلى الفلسفات والحضارات القديمة نجد أن تعاليم حمورابي، واختراع النظام الستيني وتفسيرهم لأصل العالم وتفسير الليل والنهار أبرز منجزات البابليين، وتفوق المصريون القدماء في تحديد طول السنة ب365 يوماً وحساب حجم الهرم والنظام الديني القائم على فكرة التوحيد، وظهرت الفلسفة البراهمانية في الهند وظلت مسيطرة على الفكر الهندي حتى القرن السادس قبل الميلاد، وظهور البوذية والتي أسسها غاوماتا بوذا، ثم ظهور الفلسفة الكونفوشيوسية في الصين والتي أسسها كونفوشيوس (551-479) ق.م. وقد يعتقد البعض أن لا علاقة لهذه الفلسفات بالمسرح وهو قول مجافٍ للحقيقة، لأن المسرح في عمقه الفكري يحمل فلسفة مهمة بما تنضح به جوانب عالمه المحيط، ثم يظهر ذلك للدارسين المنقبين عن فكر المجتمعات المنتجة لهذا الفن عبر القرون، وهذا أهم ما في الأمر. فلم نتناول فناً مسرحياً نصاً أو عرضاً، إلا بتناول الفكر المسرحي الذي يحيطه والفلسفة التي تنضح بها جوانبه والتي يترقبها الدارسون عبر العصور لكشف عمق هذه المجتمعات وفكرها وما يحيط بها من مؤثرات، كما أن المدارس الفلسفية تعمل في المسرح بفاعلية الأواني المستطرقة بلا حدود لأن المسرح لا وطن له في عمقه المعرفي وهو ما يميزه كفن إنساني بحت. وهو ما جعل الدراما المسرحية اليونانية مقياساً لدارسي المسرح، لأن بعض ملامح الفكر الفلسفي في الشرق القديم الذي تأثرت به الفلسفة الإغريقية وتفاعلت مع المعطيات الفلسفية المصرية والبابلية بشكل خاص، برزت في الفلسفة اليونانية في القرنين السادس والخامس ق.م. إلا أنها تعود أفضلية الفلسفة الإغريقية كونها كانت الرائدة في تحرير الفكر عبر تساؤلاتها عن طبيعة الواقع وحقيقة العقل والعديد من القضايا ذات الطابع المعرفي الشمولي. ولعلنا نتناول الفلسفة السوفسطائية كمثال على ذلك، لأنها برزت كظاهرة فلسفية لعصر ديموقراطية العبيد في أثينا، حيث كان الإنسان عند السفسطائيين معيار الأشياء جميعاً، فأثرت في الفكر المسرحي حينها وهو ما نراه في نصوص اليونان. وهو ما أثر على المسرح سواء من منظور الفرد والبنية الاجتماعية خاصة أو على الدراما بوجه عام، ومن هنا نستطيع القول إن بداية التعامل مع الخطاب النقدي وفنونه كانت لدى السوفسطائيين، وبذلك نبدأ بآرائهم وآثارهم واللتان كانا لهما أثرهما الواضح في ذلك لما أولته هذه الفلسفة من اهتمام لفن الكلام. في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد وبعد انتهاء معركة سلاميس البحرية 480 ق.م ساد النظام الديموقراطي بفضل السياسي بريكليس الذي اشتهر بقدرته وبراعته في فن الخطابة حتى أنه لقب بالأولمبي، ولذا احتل فن الخطابة موقع الصدارة بين كل الفنون، إذ أصبح من أهم وسائل التأثير على جماهير الناس واكتساب أغلبية الأصوات في المجالس الشعبية. ونشأت طائفة السفسطائيين لتقوم بتلبية حاجة الناس إلى المعرفة بهذه الوسائل التي لا غنى عنها في النجاح في الحياة العامة، وكان أكثّر السفسطاِئيين من المتخصصين في علوم اللغة والخطابة والجدل. لم يكن اسم السفسطائيين في بداية الأمر يفيد أي معنى سيئ، وإنما كان يعني المعلم والحكيم، لذلك فقد عدت فلسفتهم ثمرة للحياة الديموقراطية في أثينا وتعبيراً قوياً عنها فظهر ذلك جلياً في الفن المسرحي. ولم يهتم السفسطائيون بالأفكار الفلسفية المتعلقة بمسألة الكون والطبيعة، بل على خلاف ذلك، فكانوا يعتقدون أن الفضيلة تكمن في تحقيق نجاح ما في هذا العالم، ولذلك هبطت الدراما اليونانية من السماء إلى الأرض.. ويعتقد السوفسطائيون أن القانون ليس من طبيعة الأشياء، بل هو عُرْف محض. ولهذا قالوا: إن الذكاء الخارق يكفي للتملص من القوانين، وليس لديهم أي التزام أخلاقي للتقيّد به. فالذكاء على حد مفهوم بعض السوفسطائيين يجعل الفرد خارجاً عن التقيد والالتزام الأخلاقي مما يهدد النظام الاجتماعي والأخلاقي بصفة عامة، وهو مبدأ عارضهم فيه أفلاطون. لكن بروتاغوراس (408 ق م -480 ق م) أعتقد بأنه يجب اتباع الأعراف والطقوس القديمة للمحافظة على تماسك المجتمع. وهو ما يتعارض مع ما اشتهر به جورجياس (380 ق م – 487ق م) بأفكاره الشكوكية المحرّضة فكريًا. ويتعارض مع ما طالب به أنتيفون، الذي ركّز على الفرق بين القانون المدني والسعي الفطري للإنسان للحصول على ملذّات الحياة، وكان يعتقد أن الناس غالبًا ما يستطيعون تحقيق منافع شخصية عن طريق التلاعب بالقانون والعمل وفقًا لنزواتهم الفطرية إذا ما استطاعوا الإفلات من العواقب. وقد أخذوا على عاتقهم تعليم أبناء الحكام والأباطرة فن الخطابة والجدل والتهكم والتوليد والنقد التذوقي، كما كانوا يجنحون إلى النقد العقلي والاعتماد على العقل، ومهارة وبراعة اللعب على الفكرة ونقيضها في أسلوب مقنع، يصعب على الغير التمييز بينهما، وفي آواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس قبل الميلاد نجد إقامتهم لما يسمى بالنقد العقلي، الذي قال عنه عبدالرحمن بدوي: "إنه قد أقام قواعده السفوسطائيون، ويقوم على النقد اللغوي والتاريخي والعقلي من حيث الإمكان والاحتمال". وهذه هي مرحلة النضج النقدي في المنهج السفوسطائي، كما أنهم كانوا مؤسسي النقد التذوقي، والذي يقوم على مدى فهم وإدراك المتلقي لما يراه وفقاً لوعيه ودرايته السابقة عبر تدريب حواسه وعلى التلقي بالممارسة الدائمة لدور الناقد، كما كان الجمهور اليوناني يقوم بالحكم على المسرحيات في الأعياد الرئيسة وبين مباريات الشعراء والجوالين، وكان للنقد التهكمي دوره بينهم وهو نقد ساخر يتهكم على المؤلفين والشعراء والمسرحيين، ويتضح ذلك في الكوميديا القديمة خاصة فى كوميديات "أرسطوفانيس" و"بلاوتوس"، وكانت مسرحية "السحب" ومسرحية "الضفادع" خير مثال على ذلك النقد اللاذع والساخر الذي أصبح مرفوضاً الآن.