بلغت شهرة المحاورات الأفلاطونية الآفاق، فقد عُرف عنها أنها من جمع وتدوين أفلاطون عن سقراط، رغم أنّ حقيقة المحاورات، التي بلغ عددها ثمانٍ وعشرين محاورة، لم يبتّ في نسبتها لسقراط بشكل قطعي، فمن الباحثين من يرجّح أنها عمل روائي متخيّل من التلميذ، يوظّف فيه المعرفة كما تلقّاها عن الأستاذ، ولا يمكن تحديد تاريخ بعينه للمحاورات، لكنّه قد اتّفق على كتابة أفلاطون لها بعد وفاة أستاذه. فهي أقرب ما تكون إلى الحوارات المسرحية موزّعة على مشاهد، في فضاءات خارجية في الميادين والحقول، أو داخلية في بيوت ومجالس أحد المتحاورين، ميّزها طابعها الجدلي، الذي تتوالد فيه الأسئلة على لسان عدة مشاركين، وتأخذ الحوارات شكلًا متناميًا يؤدي أحدها إلى الآخر، ويسير صوب النتيجة بالتدرج. من اطّلع على المحاورات، سيلاحظ اختلاف الأسلوب والمضمون والمقاربة بين المحاورات المختلفة، وإحدى أشهرها، تلك التي جرت بين أفلاطون وجورجياس، والتي قد تختلف في موضوعها عن بقية المحاورات، لكنّها تأخذ الإطار الجدلي العام ذاته في الشكل والبنية الحجاجية؛ فجورجياس أحد كبار السفسطائيين -مثله مثل بروتاغوراس- لم يخل حواره مع المعلّم الأول من الطابع الأدبي، فقد اعتمد في كثير من حجج التبرير والإقناع على الخيال القصصي والمشهدية، والتمثيل والتشبيه. في حوار حول العدل والظلم، ينبثق عن السؤال الأساس حول البيان، أما السؤال فهو غير مباشر، وليس عن كنه الظلم، بل عن العلم به وبضدّه وهو العدل، وأهمية ذلك للخطيب؛ ولأنّ جورجياس كما أسلفنا أحد أئمة السفسطة، الذين احترفوا تدريب الطلبة على الخطابة والإقناع يبادر سقراط: «وسوف نفحص عما قريب، إذا ما استدعت المناقشة، هل الخطيب يتساوى أولا بطريقة العمل هذه مع الآخرين؟ أما الآن فلِتَرَ أولًا، هل يكون بالنسبة للعدل والظلم والجمال والقبح والخير والشر، في الوقت نفسه الذى يكون عليه بالنسبة للصحة وموضوعات الفنون الأخرى؟ وهل يملك الخطيب سرًّا للإقناع، وهو لا يعرف الأشياء في ذاتها؟ ودون أن يعرف ما هو خير وما هو شر، وما هو جميل وما هو قبيح، وما هو عادل وما هو ظالم، فيبدوَ أكثر علمًا من العلماء؟ أو هل من الضروري أن يعرف الإنسان؟ وهل يجب أن يكون الإنسان قد تعلم من قبل هذه الأشياء؟ قبل أن يأتي ملتمسًا قِبَلك دروس البيان؟ وإلّا فهل ستجعل -وأنت أستاذ البيان- تلميذك يبدو دون أن تعلمه هذه الأشياء عالمًا بها، وهو يجهلها؟ وفاضلًا وهو ليس بفاضل؟» الملاحظ أن أفلاطون، مدوّن المحاورات، وفي آراء أخرى، مؤلفها، لا يظهر في هذه المحاورة على الأقل، فالمتحدّث الرئيس في معظمها، سقراط، موجّهًا أسئلته إلى جورجياس، بأسلوب حكائي، يجعلها أقرب إلى عمل أدبي، يبدأ بحكاية يتواصل فيها السرد الإنشائي، وتتخللها عُقد الصراع في هيئة الجدل المتصاعد، بحبكة بسيطة سطحية، يقرّبها إلى جنس المسرحية؛ لغلبة الحوار عليها، في صورة تساؤلات، والتي في معظمها تتطلب الإجابة بلا أو بنعم، كما في الحوار التالي: «جورجياس: أعتقد يا سقراط أن الإنسان إذا ما كان يجهل هذه الأشياء من قبل، فإنه يتعلمها هي أيضاً بجواري. سقراط: يكفي هذا، ولقد أحسنت القول، إنه يجب لكي تجعل من تلميذ خطيباً أن يكون عارفًا بالعدل والظلم، سواء أكان قد اكتسب هذه المعرفة من قبل، أم حصل عليها منك فيما بعد. جورجياس: تمامًا. سقراط: ولكن ماذا؟ أليس صحيحاً أنّ من تعلم الهندسة المعمارية يكون مهندساً معمارياً؟ جورجياس: بلي». وجد الغرب في تلك النصوص ما يستحق أن يُدرجه في خانة الأدب، فجعلوا جزءًا من اشتغالهم بالنقد المقارن للدراسات البينية، التي تجمع الأدب بالعلوم الإنسانية، كالفلسفة والاجتماع والإناسة، ودراسة مدى التأثير والتأثر فيما بينها؛ بينما يقيم معظم الباحثين في الأدب العربي، أسوارًا عالية بين نصوص التراث الأدبية، ونصوص العلوم المجاورة كالفلسفة والتاريخ والعلوم الحقّة.